العالية.. وأن معانيه لو انتشرت بين
العامة والخاصة لجردت الحياة من أشواك الصراع التي ينبتها الحرص والرغبة والطمع
والتثاقل إلى الأرض.
بقيت مع أويس إلى أن جاء ذلك اليوم الذي
لقي فيه ربه.. وقد بكيت فيه كما لم أبك على أقرب أقاربي..
التفت الوارث إلينا، وقال: إن شئتم
حدثتكم عن حفل التأبين الذي أقيم له.. والذي حضره كل من تتلمذوا على يديه من
الكبار والصغار.. بل إني لم أر في حياتي ازدحاما على جنازة أحد كما رأيت الازدحام
على جنازته.
أشرنا إليه بالإيجاب، فقال: في ذلك اليوم قام خطيب من الخطباء
تخنقه دموعه، عرفت بعد ذلك أن اسمه (ابن السماك)[1]، وقال: يا أيها الناس إن أهل
الدنيا تعجلوا غموم القلب وهموم النفس وتعب الأبدان مع شدة الحساب، فالرغبة متعبة
لأهلها في الدنيا والآخرة، والزهادة راحة لأهلها في الدنيا والآخرة، وإن أويسا نظر
بقلبه إلى ما بين يديه فأغشى بصر قلبه بصر العيون، فكأنه لم يبصر ما إليه تنظرون،
وكأنكم لا تبصرون ما إليه ينظر، فإنكم منه تعجبون وهو منكم يتعجب، فلما نظر إليكم
راغبين مغرورين قد ذهبت على الدنيا عقولكم وماتت من حبها قلوبكم وعشقتها أنفسكم
وامتدت إليها أبصاركم استوحش الزاهد منكم لأنه كان حيا وسط موتى)
قال ذلك، ثم توجه إلى نعش أويس مخاطبا له، وكأنه حي أمامه: يا أويس..
ما أعجب شأنك.. ألزمت نفسك الصمت حتى قومتها على العدل، أهنتها وإنما تريد
كرامتها، وأذللتها وإنما تريد إعزازها، ووضعتها وإنما تريد تشريفها، وأتعبتها
وإنما تريد راحتها، وأجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، وخشنت
الملبس وإنما تريد لينه، وجشبت المطعم وإنما
[1] نص هذه الخطبة (لابن السماك) قالها عند موت داود الطائي.