منذ[1] نعومة أظفاري أرفض قبول أموال
الناس وهداياهم.. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال
وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهداً ولا صوفياً ولا صاحب رياضة روحية، فضلاً عن
أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.
فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما
كان يحار من يعرفني من الأصدقاء، وقد فهمت حكمتها قبل بضع سنين، إنها كانت لأجل
عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجئ اعتراض على رسائل النور في
مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. والاّ كان أعدائي
الرهيبون ينـزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية)
وذات مرة أتاه صديق حميم تاجر، بمقدار من
الشاي يبلغ ثمنه ثلاثين قرشاً، فلم يقبله، فقال: لا تردّني خائباً يا استاذي، لقد
جلبته لك من استانبول! فقبله، ولكنه دفع له ضعف ثمنه.
فقال: لِمَ تتعامل هكذا يا أستاذي، ما
الحكمة فيه؟
فقال الإمام: لئلا أنزل قيمة الدرس الذي
تتلقاه ـ وهو بقيمة الألماس ـ إلى قيمة قطع زجاجية تافهة. إنني أدع نفعي الخاص
لأجل نفعك أنت!
التميز
سكت الوارث برهة من الزمن، وكأنه يتذكر
شيئا كان قد نسيه، فراح أحدنا يسأله قائلا: عرفنا الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال: وما الثاني؟
قلنا: التميز.. فالإمام المتصدي لدعوة
الناس لا بد أن يكون متميزا، ولا بد أن يكون من يربيهم مثله قوم متميزون.
[1] الكلام التالي للنورسي منقول من سيرته الذاتية ص: 492.