لقد رحت أصيح من جديد في التاريخ لأقول له: مَن ذا الَّذِي
تُعَدّ حياته أسوة للبشر، وفيها المثل الأعلى للبشر، مِن بين مئات الألوف من
الرُّسُل والأنبياء وعظماء المُصْلِحين، ممن شرعوا للإنسانية دِياناتها، وسَنّوا
السُّنَن للناس؟
قال الرجل: فقد عدت لما بدأت به.
قال: أجل.. ولكني اقتصرت على زعماء الأديان الكبرى.. أما
غيرهم.. فقد عرفت أن شأنهم أحقر من أن يوزنوا في موازين هذا النوع من العظماء..
ولذلك لم يولهم البشر أي أهمية في هذا الجانب.. ولذلك لا نعرف عنهم ما يمكن
اعتبارهم موضع قدوة فيه.. بالإضافة إلى أن وجدت أكثرهم تابعا لزعيم من زعماء
الأديان، ولا يمكن للتابع أن يصير متبوعا.. ولا يمكن أن نترك المتبوع، ونلهث وراء
التابع.
قال الرجل: فقد بدأت ببوذا إذن؟
قال: أجل.. لقد تتبعت سيرة بوذا منذ هجر أهله وعياله إلَى
الصحاري والغابات؛ وتتبعت خطواته منذ ترك خَليلته الَّتِي كانت حبيبة قلبه، ولم ير
ولده الوحيد مرةً أخرى، وترك خِلَّانه وأحباءه؛ فخفف عن كاهله أعباء الحُكْم،
وارتضى الموت آخر وسيلة له إلَى النجاة؛ فكان الأجل المحتوم الغاية القصوَى للحياة
البشرية عنده.
وعندما انتهيت من هذا البحث المستقصي قلت لنفسي، أو قال لي
عقلي: مَن ذا من البشر يرضَى بأن يتخذ من حياة بوذا أسوة في هذِهِ الدنيا؛ الَّتِي
لا بقاء لها ولا عمران إلَّا بالحياة الاجتماعية والروابط العمرانية والأواصر
الإنسانية، ولا بُدّ فيها من رَاعٍ يرعَى رعيّته، وصديق يألف صديقه، ووالد يُشفق
علَى ولده، وأُمّ تحن علَى فَلذة كبدها؟!
وهل في حياة بوذا شيء من ذلك يكون به أسوة للجميع ـ من الرهبان
الَّذِين انقطعوا للآخرة، إلَى الآباء ذوي العِيال، وأصحاب الضياع والمزارع
والمصانع والأموال!؟
لقد أجابتني حقائق التاريخ بلسان فصيح: كلَّا.. ليس هذا الرجل
هو من تبحث عنه..