سكت قليلا، ثم قال: الحسنات قِسمان: سلبيّة وإيجابيّة.. وأنتَ
إذا اعتزلت الدنيا في غار بسفح جبل؛ تعبد فيه ربك، ولم تبرحه طول حياتك، تصرف فيه
أوقاتك بالتبتّل إلَى الله؛ فإنّ أحسن ما يقال في مَدْحِك: أنك اتقيتَ الشرّ، ولم
تقترف سيئة تُذَمّ عليها.. نعم إن ذلك من الحسنات.. ولكنها حسنات سلبيّة.. وهي لا
تكفي وحدها.
ولذلك فإن الكمال يطالبك بالحسنات الإيجابية.. هل حملتَ كلًّا،
أو نصرتَ مظلومًا، أو كسبتَ مُعْدَمًا، أو أطعمتَ جائعًا، أو كسوتَ عاريًا، أو
ساعدتَ فقيرًا، أو ذُدتَ عن ضعيف، أو هديتَ ضالًّا؟
إن الأخلاق الحسنة ومكارمها.. من العفو، والسماحة، والقِرَى
وبذل المال، والصَّدْع بالحق، والحميّة في قمع الباطل، والجهاد في أداء الواجب..
وغيرها.. لا تُعَدّ مكارم أخلاق لأجل ترك الدنيا والتبتّل في عُزْلَة عن المجتمع،
وليست الحسنات من الأمور السلبيّة فحسب؛ بل معظم الحسنات ترجع إلَى العمل
الإيجابيّ الَّذِي يقوم به المرء، ولا يكفي فيها ترك المعاصي واجتناب السوء.
ولهذا، فإن الإنسان ينشد مثالًا يقتدِي به في كل عمل يُقْدِم
عليه؛ في غناه وفقره، وفي سِلْمه وحَربه، ويتحرَّى السبيل الَّذِي يسلكه إذا تزوج
أو بقي عزبًا، ويريد أنموذجًا عاليًا يأتمّ به إذا عَبَدَ ربه أو عاشر الناس،
ويحاول أن يلمّ بالقوانين الَّتِي ينبغي العمل بها بالنسبة إلَى الراعي والرعيّة،
والحكَّام والمحكومين.. وجميع هذِهِ الأمور ينبغي للمرء أن يتَّخِذ لنفسه القدوة
فيها؛ لأن الأمم قد التوَت عليها هذِهِ المسألة؛ فأهمها التماس الطريق الموصِل
إلَى حلّ هذِهِ المعضلات، وتذليل هذِهِ المصاعب. ومعظم الشعوب تشعر بالحاجة
الشديدة إلَى المُثُل العُلْيا في ذلك؛ لتخفِّف عن الإنسانية آلامها، وتأسو
جراحها، وهي متلهِفة علَى مثال لذلك من الأعمال، لا علَى مثال عليه من الأقوال.
قال رجل من الجمع: فهل في تاريخ البشرية من اجتمعت له كل هذه
الكمالات، حتى