ولكني عندما رحت أستقصي في سيرة محمد وجدت أن أول من آمن به
زوجه..
لما جاء محمد في تلك اللحظات المشرقة إلى زوجه خديجة يخبرها بما
نزل عليه من الوحي كان قد مضى علَى زواجه منها خمسة عشر عامًا، وهي مُدّة تكفي
المرء أن يعرف أحوال صاحبه وأخلاقه وعاداته معرفة تامة؛ فحين سمعت خديجة أن محمدًا
نزل عليه الوحي؛ بادرت بتصديقه وآمنت به؛ بل قالت له: إنّ الله لا يخذُلك؛ فإنك
تصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتنصر المظلوم، وتَقري الضيف، وتنصر
علَى نوائب الحق.
وهذا الَّذِي ذَكَرَته خديجة هو الَّذِي كان يتحلّى به محمد من
مكارم الأخلاق وفضائل النفس قبل أن يوحَى إليه.
انظروا.. إن أعظم الناس لا يأذن لزوجه ـ وإن كانت له زوج واحدة
ـ بأن تحدِّث الناس عن جميع ما تراه من حَليلها، وأن تعلن كل ما شاهدته من أحواله،
لكن محمدا كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كل منهن في إذن منه بأن تقول عنه
للناس كل ما تراه منه في خلواته، وهن في حِلّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كل
ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدثن في الساحات والمجامع بما يشاهدن منه في
الحجرات.. فهل عرفت الدنيا رجلًا كهذا الرجل يثق بنفسه كل هذِهِ الثقة، ويعتمد
عليها إلَى هذا الحد، ولا يخاف قالة السوء عنه من أحد؛ لأنه أبعد الناس عن السوء؟!
والأمر لم يتوقف عند زوجاته.. بل إن محمدا أَذِن لأصحابه ولمن
يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه لمن غاب عنها، وهذا الإذن عام لما يكون عنه في بيته
وبين أهله وعياله، أو ما يصدر عنه في حلقته مع أصحابه، أو ما يقفون عليه من أعماله
وأقواله: عند تعبده في مسجده، أو قيامه علَى منبره خطيبًا، أو جهاده في ساحة الحرب
تجاه أعدائه وهو يسوي صفوف المجاهدين في سبيل الله، أو إذا خلا إلَى ربه في حجرة
منعزلة في بيته يعبد الله ويتضرع إليه؛ فكان أزواجه وأصحابه يتحدثون جميعًا بكل ما
يصدر عنه من قول أو عمل.