الطائف، وكان بعد ذلك أن زحف المسلمون علَى الطائف في السنة
الثامنة للهجرة، وحاصروها فأطالوا حصارها؛ واستعصى عليهم حصنها الحصين الَّذِي
قُتِل فيه كثيرون منهم؛ فهَمّ محمد أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا إلَّا الفتح،
وسألوا محمدا أن يدعو علَى أهل الطائف؛ فرفع يديه إلَى السماء يدعو فقال: اللهمّ
اهْد أهل الطائف، اللهمّ ألِن قلوبهم للإسلام، ومَكّنه فيها!
هذه هي رحمة محمد، وسَعة صدره، وسجاحة خُلُقه، وكرم نفسه؛ يدعو
بالخير للذين آذَوه بالشرّ أشدّ الأذى، وأبَوا أن يجيروه حين استجار بهم، ثم قاتلوه
أشدّ القتال، ومع كل هذا؛ لم يسأل الله لهم إلَّا أعظم ما يعلمه من الخير ـ وهو
الهدى ـ! أرأيتُم رجلًا آخر في الدنيا بلغت الرحمة من قلبه هذا المبلغ؟
دارت رحَى الحرب علَى المسلمين بعد أن كانت الغَلَبَة لهم؛ وذلك
لأنهم خالفوا أمر محمد، واستهوتهم أموال المشركين؛ فاشتغلوا بجمع الغنائم، وحينئذ
كرّ عليهم العدو؛ فانهزموا وزُلْزِلت أقدامهم؛ فأحاط المشركون بمحمد؛ ورَمَوه
بالسهام والحجارة، وقاتلوه بالسلاح؛ فانكسرت ثَنيّته، وشُجّ رأسه، ودخل فيه ثلاث
حلقات من البيضة، وتضرّج بالدم؛ فلم يزد في ذلك الموقف الرهيب علَى أن قال: (كيف
تفلح أمة تقتل نبيَّها؟ اللهمّ اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون)
إذا كان المسيح قد قال في عِظَة الجبل: (أحبب عدُوَّك)؛ فإن
محمدًا لم يقتصر علَى إرشاد الناس بلسانه بأن يحبوا أعداءهم؛ بل أراهم بسيرته
وعمله كيف يكون موقفهم من أعدائهم.
إن عبد ياليل ـ وأظنكم تذكرون اسمه ـ قد جبه محمدا هو وعشيرته
بالمكروه وآذَوه أذًى شديدًا، فلما نزل مع قومه علَى محمد في المدينة ـ بعد ذلك ـ
؛ أنزله في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كل عشاء، ويقصّ عليه ما كان
يلقَى وهو في مكة من عَناء وجهد.. ومَن