كلها، بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته وأزواجه وأولاده،
ولا من أمور فقراء المسلمين ومساكينهم، ويهتم بأمر الناس الَّذِين نَسُوا خالقهم
وصَدُّوا عنه؛ فيحرص علَى إصلاحهم. وبالجملة؛ إنه إنسان يهمه أمر العالم كله، وهو
مع ذلك؛ مُتبتِّل إلَى الله، منقطع عن الدنيا؛ فهو في الدنيا وليس فيها، لأن قلبه
لا يتعلق إلَّا بالله وبما يرضي الله. لم ينتقم من أحد قط لذات نفسه، وكان يدعو
لعدُوِّه بالخير، ويريد لهم الخير، لكنه لا يعفو عن أعداء الله ولا يتركهم، ولا
يزال يُنذِر الَّذِين قد صَدُّوا عن سبيل الله ويوعدهم عذاب جهنم. تراه زاهدًا في
الدنيا عابدًا، يقوم الليل لذكر الله ومناجاته، كما تتصور من شمائله أنه الجندي
الباسل المقاتل بالسيف، وتراه رسولًا حصيفًا ونبيًّا معصومًا في الساعة الَّتِي
تتصوره فيها فاتحًا للبلاد ظافرًا بالأمم! وإنه ليضطجع علَى حصير له من خوص، ويتكئ
علَى وِسادة حَشوها من لِيف، حينما يخطر علَى بالنا أن ندعوه بسلطان العرب، وننادي
به مَلِكًا علَى بلاد العرب! ويكون أهل بيته في فاقَة وشدة عَقِب استقباله الأموال
العظيمة آتية إليه من أنحاء الجزيرة العربية؛ فتكون في فناء مسجده أكوامًا، وتأتيه
بِنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه ما تكابده من حمل القِرْبة والطَّحْن بالرَّحَى؛
حتى مُجَّت يداها، وأثرت القِرْبة في جسمها، ومحمد يومئذ يقسِّم بين المسلمين ما
أفاء الله عليهم من عبيد الحرب وإمائها؛ فلا تنال بِنته من ذلك إلَّا دعاؤه لها
بكلمات يعلِّمها كيف تدعو بها ربها..
لقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه ـ بإسناد ليِّن ـ أن نِداءً
سُمِعَ عند مولد محمد يقول: طُوفُوا بمحمد جميع البلاد، واغطسوه في قعر البحار؛
ليعرف العالم كله، ثم اذهبوا به إلَى جميع الإنس والطير والحيوان، وأعطوه من خُلُق
آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخُلَّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضا إسحق، وبلاغة
صالح، وحكمة لوط، وشِدّة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، ولحن داود،
وحُبّ دانيال، ووقار إلياس، وعِفّة يحيى، وزُهْد عيسى، واغمسوه في بحر أخلاق الرسل
كلهم.