في مغارة الجبل وقد أرخى الليل سدوله ـ ؛ فكأنك ترى المسيح وقد
خلا بنفسه يوحِّد الله ويناجيه بالعبودية له.
ولو رأيتَ نبي الإسلام وهو يذكر الله دائمًا ويحمده ويسبِّحه في
البُكور والآصال وفي كل حال؛ فكأنك برؤيته ترى داود صاحب الزَّبُور في ترتيله
محامد الله ونعمه.
وكأنك ترى سليمان في جنوده وعليه جلال المَلِك وأُبَّهة
السلطان؛ حينما ترى محمدًا بين أصحابه وقد فتح مكة ودخلها تحت رايات المجاهدين،
بأيديهم السيوف مصلَّتة لإقامة الحق، والعوالي السُّمر مشرعة لتقويض دعائم الباطل.
أما إذا رأيته وهو محصور مع ذَويه في شِعْب أبي طالب، وقد
مُنِعَ دخول الطعام والشراب إليه من الخارج؛ فكأنك ترى يوسف الصِّدّيق وهو في
سِجْن مِصر يعاني شدائد الظالمين ويكابدها.
إن موسى قد جاء بالأحكام، وداود امتاز بدعاء الله والتغني
بمُناجاته، والمسيح بُعِثَ ليعلِّم الناس مكارم الأخلاق والزُّهد في الدنيا، وأما
محمد فقد جاء بكل ذلك: بالأحكام، ودعاء الله، والتوجيه إلَى مكارم الأخلاق، والحض
علَى الزُّهد في الدنيا وزينتها، وكل هذا تجده في القرآن لفظًا ومعنى، وفي السيرة
المحمدية قُدْوة وعملًا.
***
ما وصل السيد سليمان من حديثه إلى هذا الموضع حتى ارتفع
الآذان.. وقد شاء الله أن لا نسمع منه إلا (محمد رسول الله).. فصاح الجمع ـ بمختلف
طوائفهم ـ من غير شعور (محمد رسول الله).. وصحت معهم بها.. فتنزلت علي حينها أنوار
لو كانت بحار الدنيا مدادا، وأشجارها أقلاما، واجتمعن ليعبرن عنها ما أطقن.
في ذلك المساء.. رأيت مشهدا لن أنساه طول عمري.. سأذكره لكم كما
شاهدته..