يتجر ثم يحاسبه، فكذلك العقل هو التاجر في طريق
الآخرة، وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحها، كما قال تعالى:﴿ قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس)،
وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها
ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله.
وكما أن
الشريك يصير خصماً منازعاً يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولاً ويراقبه ثانياً
ويحاسبه ثالثا ويعاقبه رابعاً؛ فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولاً فيوظب
عليها الوظائف ويشترط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويجزم عليها الأمر
بسلوك تلك الطرق، ثم لا يغفل عن مراقبتهما لحظة، فإنه لو أهملها لم ير منها إلا
الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال، ثم بعد
الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها
الفردوس الأعلى وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء، فتدقيق الحساب في هذا مع
النفس أهم كثيراً من تدقيقه في أرباح الدنيا مع أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم
العقبى
لقد اتفق على
ضرورة المحاسبة كل أولياء الله..
قال مالك بن
دينار: (رحم اللّه عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثمّ زمّها،
ثمّ خطمها، ثمّ ألزمها كتاب اللّه- عزّ وجلّ- فكان لها قائدا)
وعن ميمون بن
مهران قال: (لا يكون الرّجل تقيّا حتّى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشّريك لشريكه)
وقال
الغزاليّ: (عرف أرباب البصائر من جملة العباد أنّ اللّه تعالى لهم بالمرصاد،
وأنّهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذّرّ من الخطرات واللّحظات،
وتحقّقوا أنّه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلّا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة،
ومطالبة النّفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللّحظات، فمن حاسب
نفسه قبل أن