قال: ذلك الذي لم
يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع كان فيه الكثير من التواضع والصدق، ولكنه ربما يكون
فيه من الغفلة ما أتاح لأهل الضلال بأن يجذبوه إلى صفهم.. فلذلك ما إن يرى الحقيقة
حتى يسرع إليه، في أي عمر كان..
قلت: والذي قضى
عمره في عمل أهل الجنة؟
قال: ذلك هو
المملوء بالكبر والطغيان.. ولذلك يبدو في ظاهره من الصالحين، لكن باطنه يفوح بتلك
الروائح المنتنة التي نطق بها فرعون حين قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
[النازعات: 24]، ولذلك يهيء الله من الاختبارات ما تبلى به سريرته، وتظهر به
حقيقته، مثلما حصل مع إبليس حين لم تغن عنه كل عباداته بسبب سجدة واحدة استكبر أن
يسجدها.
قلت: أجل.. فعد
بنا إلى نفسك، وأخبرني كيف حصل لك هذا التبدل الكبير.
قال [1] : ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمة (قلعة أنقرة)، التي
أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية
متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا،
ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية، ومن شيخوخة الدنيا.. فاضطرتني تلك الحالة إلى
النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن
نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحس به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك
وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط.
حينها
نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثا عن نور ورجاء، فبدت لي تلك