قلت: بالله عليك ـ يا معلم ـ لا تنطق بمكان وجودها، فإني أخاف
أن يقتلعها قومي ليزينوا بها قصور ملوكهم.. أو أخاف أن تمتد إليها أيديهم الآثمة،
فيحولوها أشواكا كشوك السعدان.. أو أخاف على أهل تلك الأرض التي توجد فيها أن
يغزوا في عقر دارهم ليجلوا عن أرضهم.. فتصير زهرتهم سبب شقائهم.. كما صار الذهب الأسود
سبب تعاستنا.
***
في تلك الليلة أصابتني حمى شديدة.. ارتعدت لها فرائصي.. وتقطعت
أوصالي.. فبت أسبح في مياه آلامي.. كانت الأنة تريد أن تفلت من لساني.. فتتداركها
ابتسامتي لتملأ صدري انشراحا.
عجب أهلي من حالي.. وظنوا الابتسامة التي امتلأ بها ثغري نوعا
من المس الذي يصيب المحمومين، فسارعوا بالرقاة ليقتلعوا آثار جنوني.. ضحكت منهم..
فازداد شكهم.
جاءني تلك الليلة أربعة رقاة ليقتلعوا الابتسامة التي امتلأ بها
ثغري، أما الأول فكان قارئا متقنا، وأما الثاني، فكان وسيطا ملهما، وأما الثالث،
فقد كان يحمل ورقة وقلما ليكتب كل ما يقال، وأما الرابع فكان مدير أعمالهم الذي
يقبض الأموال ويعدها، ولا يسمح لهم بمزاولة عملهم إلا بعد امتلاء جيوبه منها.
بدأ القارئ يقرأ، فغمرني الخشوع لقراءته، فأصابني ما يصيب
الخاشعين من انكسار، فصاح الوسيط في القارئ:(أعد.. أعد.. أعد ما كنت تقرأ) فعاود
القراءة، فأصابني ما أصابني أولا.. فقال: هذا انكسار خطير حصل له.. أعرفه، إنه من
جن..!؟)
ثم سألني كما يسأل المحققون، والعصا في يده، وهو يهم بضربي: من
أي الجن أنت؟
قلت: لست من الجن.. أنا إنسي، أبي إنسي، وأمي إنسية، ولا أعلم
أن أحدهما تزوج من قبائل الجن.