نتساءل بعد هذا عن سر كون اليقين هو الدرجة العليا التي تصب فيها كل
الدرجات مع أنه من المعاني التي يفهمها الجميع، ويعيها الجميع، بل يدعيها الجميع..
فأي فضل للعارفين بعد هذا؟
والجواب عن ذلك من خلال النصوص المقدسة هو أن اليقين درجات بعضها فوق
بعض، وليس مرادنا منها هنا إلا أعلاها، وهي درجة المقربين.. وهم ـ أيضا ـ درجات
بعضهم فوق بعض.
وأولى
درجات اليقين التي يتحدث عنها العارفون هي الدرجة التي تبدأ من الإدراك التام
للأشياء إدراكا مشابها لإدراك السمع والبصر، كما قال تعالى عن المجرمين:﴿
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ (السجدة:12)، فقد
اعتبروا إدراكهم للحقائق إدراك سماع وبصر يقينا.
ولهذا،
فإن أولى علامات العارف أن يكون قلبه مرآة تتجلى فيها الحقائق بوضوح تام، كما قال
شاعرهم:
إذا سكن الغدير على صفاء
وجنب
أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء
كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي
يرى في صفوها الله العظيم
وهذا
هو الفرق الأساسي بين العلم والمعرفة، فالعلم بحث واستدلال، والمعرفة شهود وعيان،
والعلم مكابدة وشك، والمعرفة راحة ويقين.
ففي
الوقت الذي يتيه فيه العلماء بحثا عن الأدلة، ويتنازعون وفق ما تقتضيه