السر الثاني من أسرار
التوحيد في القدر هو أن يعلم المؤمن أن لله تعالى حضورا دائما في الكون، فهو الذي يسيره بلطفه ورحمته ومقتضيات أسمائه
الحسنى، فالكون كونه، والإرادة إرادته، والتصريف تصريفه، فهو المهيمن على كل شيء،
الملك الذي يخضع الكل لمشيئته.
وهذا هو التوحيد الذي
يحرر المؤمن من ربقة التبعية لغير الله، فهو يعلم أن مشيئة الله هي النافذة، وأن
مشيئة غيره إن شاء له شيئا وهم وسراب لا حقيقة له، ولذلك ربط a بين حقائق القدر، وهذا المعنى في قوله a
مخاطبا ابن عباس: (يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ اللّه
يحفظك، احفظ اللّه تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه،
واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللّه لك،
ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللّه عليك، رفعت الأقلام
وجفت الصحف)[1]
وقد انشغل البعض عن هذه
المعاني العملية الذوقية بالجدل، فتصوروا أن إثبات المشيئة لله يلغي مشيئة عبده،
وبذلك يقع العبد في أسر الجبر، وترفع عنه عهدة التكليف، وذهب آخرون إلى إلغاء
مشيئة الله حفاظا على مشيئة العبد، فحجروا على الله، وجعلوه مهانا في ملكه، يحدث
ما لا يريده، وتقع الأشياء من غير مشيئته.
وهذا الجدل هو نتيجة
طبيعية للاكتفاء بالبحث العقلي المجرد بعيدا عن نور الوحي، والعقل لا يمكنه أن
يستكنه من الحقائق إلا بعض جوانبها، بل قد يتصور أن اجتماع جوانبها في نسق واحد
تناقض تأباه الطبيعة، وتنفر منه.
ولكن الحقائق الشرعية
التي امتلأت النصوص بأنوارها تبين هذا الاجتماع، بل تصوره بصورة بديعة الجمال،
مكتملة الأركان، لا يشذ فيها طرف عن غيره، ولا ينحرف عن مساره.