بعد أن
انتهينا من الدراسة في القسم الرابع، وبعد أن رأيت تأثير التعاليم التي بثها
الحليمي في نفوس السامعين، سرت مع أهل السوق إلى القسم الخامس، وكان اسمه (قسم
البخل)، وقد عرفنا أن شيخه هو أديب الأدباء عمرو بن بحر الجاحظ[1].
وعلى خلاف ما
كنا نتوقع، فقد استقبلنا في هذا القسم بطعام لم نذق مثله في حياتنا، وكان المشرف
على الإطعام هو الجاحظ نفسه، وقد سأله بعضنا حينها متهكما: لقد كان سميك مشهورا
بالبخل، وقد كتب عن البخلاء كتابه المعروف.
قال الجاحظ:
لا.. لقد أساء الناس فهم كتابه، فهو أولى باسم (المقتصدين) منه باسم (البخلاء)،
ذلك أنه وضع فيه آداب تدبير المعيشة، وذلك ليس من البخل في شيء..
نعم لقد خلط
فيه بعض نكات البخلاء، وهو من السلوى التي تعود العلماء أن يزينوا بها كتبهم
ليرغبوا القارئين في قراءتها.
قال رجل منا:
وما الفرق بين التدبير والبخل.. أليسا شيئا واحدا؟
قال الجاحظ[2]: لا.. شتان بينهما.. نعم قد يتفقان في بعض الصور والمظاهر، ولكنهما
يختلفان اختلافا شديدا من حيث الحقيقة، فكما أن التواضع - الذي هو من
[1]
أشير به إلى عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ (150هـ - 255هـ) أشهر أدباء القرنين
الثاني والثالث الهجريين وأوسعهم ثقافة. وقد جمع بين العلم والأدب، فكان ملمًا
بجميع معارف عصره من لغة وشعر وأخبار وعلم كلام وتفسير وطبيعة، وقد كان كاتبًا
متكلمًا معتزليًا، بل كان رأس طائفة من المعتزلة عرفت بالجاحظية نسبة إليه.. وقد
اخترناه هنا لأجل كتابه الشهير (البخلاء)، وهو كتاب صوّر فيه البخلاء وتصوراتهم
وماتنطوي عليه من سخرية لاذعةٍ بسلوكهم. واتخذ من القصص وصناعة الأخبار وسيلة في
هذا الكتاب، متهكما بالبخلاء وبفلسفاتهم. ووفر لهذه القصص معالم توهم بواقعيتها
ممثلاً في أشكال الإسناد وتحديد أسماء لشخصيات واقعية، وأسماء مدن وقرى وطوائف
كانت معروفة في عصره، بالإضافة إلى استعمال اللغة المحكية في حوار شخصياته. (انظر:
الموسوعة العربية العالمية)
[2]
نقلنا المعاني الواردة هنا في الفرق بين الاقتصاد والخسة من اللمعة التاسعة عشر من
كليات رسائل النور للنورسي.