قال الرجل:
فقد آل الأمر إلى أن الجود الذي هو نقيض البخل مرتبط بمعرفة الواجب.. فما الذي يجب
بذله؟
قال الجاحظ:
إن الواجب قسمان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة والعادة[1].. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحداً
منهما فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع
عياله وأهله النفقة، أو يؤديها ولكنه يشق عليه، فإنه بخيل بالطبع، وإنما يتسخى
بالتكلف، أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من
وسطه، فهذا كله بخل.
وأما واجب
المروءة فهو ترك المضايقة والاستقصاء، فإن ذلك مستقبح، واستقباح ذلك يختلف باختلاف
الأحوال والأشخاص، فمن كثر ماله استقبح منه مالا يستقبح مع غيره.
قال الرجل:
عرفنا أن البخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم
المروءة.. ولكن ذلك يحتاج إلى تحديد.. فهل ورد ما يدل على التحديد في هذا؟
قال الجاحظ: إن
كنتم من أرباب الإشارة، فسأقص عليكم قصة توضح لكم هذا، فأراب
قد روي عن
بعض المتعبدات أنها وقفت على حيان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت: هل فيكم من
أسأله عن مسألة؟ فقالوا لها: سلي عما شئت - وأشاروا إلى حيان بن هلال - فقالت: ما
السخاء عندكم؟ قالوا: العطاء والبذل والإيثار، قالت: هذا السخاء في الدنيا فما
السخاء في الدين؟ قالوا: أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة، قالت:
فتريدون على ذلك أجراً؟ قالوا: نعم، قالت ولم؟ قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة
عشر أمثاله، قالت: سبحان الله! فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم
عليه؟ قالوا لها:
[1]
تحدثنا بتفصيل عن هذا النوع من الواجبات في رسالة (عدالة للعالمين).