وعندما دخبت الكوفة، خاطبت القوم قائلة: (يا أهل
الكوفة ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف، والصدر الشنف؟، خوارون في اللقاء، عاجزون عن
الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيعون للذمة، فبئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم
وفي العذاب أنتم خالدون)
فجأة سمعت
صوتا من بعيد، التفت إليه فإذا به رأس من الرؤوس المحيطة بيزيد، وقد أحاطت به
النيران من كل جانب، فلم أسمع إلا صوته من غير أن أتبين ملامحه.. كان يقول: أنا
ابن زياد.. أنا ذلك الذي ارتكب أبشع الجرائم في التاريخ بكل قسوة وبرودة، لكني لم
أستطع تحمل تلك الكلمات التي واجهتني بها هذه المرأة التي تتحدثون عنها.. لقد ظلت
كلماتها كالسم ينهش بدني إلى أن قضى على حياتي الدنيا.. وها هو يتبعني في هذه
الكهوف المظلمة، ليذيقني أضعاف ما أذاقني في تلك الدار.
لقد قلت لها
شامتا: (الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم)، فأجابتني بكل قوة: (الحمد لله الذي
أكرمنا بنبيه محمد a وطهرنا من الرجس
تطهيراً، وإنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله)، فقلت لها: (
كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟)، فقالت: (كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجهم،
وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجون إليه، وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج يومئذ،
ثكلتك أمك يابن مرجانة!!)
ما إن سكت
ابن زياد، حتى سمعت صوتا آخر لا يقل عنه قبحا، التفت فإذا بيزيد يردد بكل ألم: لا
تذكرني يا ابن زياد، فأنا أسمع في كل لحظة خطبتها التي واجهتني بها عندما كنت أسخر
من رأس الحسين، وقد وضعته في طشت، ورحت أضرب ثناياه بمخصرة كانت في يدي، وأنا أردد: