أعلم ـ يا بني ـ أنك كنت
تنوي أن تسألني عن سر اعتبار الذلة وصفا من أوصاف المؤمنين، مع كونها ـ حسب ما
يبدو ـ وصفا قبيحا لا يليق بالمؤمن، ولا غير المؤمن.
وسأجيبك على ذلك، لا وفق ما يريده عقلك وعقول
كل الناس فقط، بل وفق ما تريده الحقيقة نفسها.
فالذلة يا بني ليست وصفا قبيحا مطلقا، وإنما
قبحها يرتبط بالجهة التي وجهت لها.. فإن وضعت في محلها الصحيح، واستقبلت بها الجهة
التي هي أهلها كانت وصفا صحيحا سليما، بل وصفا كريما طيبا، يميز الصالحين عن
غيرهم.
ذلك أنها تدل في أصل وضعها على الخضوع والاستكانة
واللّين، والذي قد يكون بسيطا قاصرا، فيسمى تواضعا، وقد يزيد إلى درجات عالية،
فيسمى ذلة، أو قد يراه الناس كذلك.
وهي بهذا الوصف لا تمدح، ولا تذم، ولكن ينظر
إلى الجهة التي صرفت إليها تلك الاستكانة واللين، فإن كانت جديرة بذلك كان الوصف
مدحا، وإن وجهت لغير أهلها كان الوصف ذما.
وحتى أقرّب لك هذا أعود إلى اللغة نفسها،
والتي استعملت هذه الكلمة للدلالة على الحس والمعنى.. فهم يذكرون أن الأرض العزيزة
هي الأرض الصّلبة الشّديدة، والأرض الذليلة هي الأرض اللينة السهلة[1].
وأنت ترى أن الوصف المرتبط بكلا الأرضين لا
يحمل مدحا ولا ذما.. ذلك أن الأرض الصلبة نحتاج إليها لبناء المساكن القوية، أو
الطرق الصالحة، أو غيرها..