ولعله لأجل هذه العلاقة بين الجهد والرحمة في هذه الناحية قرنت الرحمة بالصبر في القرآن الكريم، ومن أمثلتها قوله تعالى :( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)(البلد: 17)
وقد ذكر ابن القيم مواقف الناس في الجمع بين الصبر والرحمة، فقال:( من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي: ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف فبصبره يقوى، وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى) [773]
وننبه هنا كما نبهنا سابقا إلى أن المرجع في تحديد متطلبات الرحمة الحسية الشرع لا العرف، والخالق لا الخلق، والفقه لا الهوى، فلذلك لا يجوز باسم الرحمة أن نلغي الأحكام الشرعية رحمة بمن حكمنا عليهم بها، وقد قال تعالى عن عقوبة الزناة:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)(النور:2)، وقال عن الكفار المحاربين:( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(التوبة:73) وهذا لا يتناقض مع كونه a رحمة مهداة.
ولذلك فإن الرحمة لا تعني المسارعة لما يطلبه المرحوم من أنواع الهوى، بل هي منضبطة بما يصلحه ويصلح له، فلذلك قد تلبس الرحمة ثوب الشدة كما قيل:
قسا ليزدجروا ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم