وهكذا فعل أصحاب المذاهب الأربعة، الذين
أنكروا الأحاديث التي لا تتناسب مع الرؤى والمصادر التي يعتمدونها، ومن الأمثلة
على ذلك ما ذكره الحنفية من شروط لقبول الحديث في الأحكام
الفقيهة، فقد قال أبو زيد الدبوسي في (تأسيس النظر): (الأصل
عند أصحابنا أن خبر الآحاد متى ورد مخالفا لنفس الأصول مثل ما روي عن النبي صلیاللهعلیهوآلهوسلم
أنه أوجب الوضوء من مس الذكر لم يقبل أصحابنا هذا الخبر لأنه ورد مخالفا للأصول)[1]
وقال أبو الحسن الكرخي عند بيانه لأصول
الحنفية: (إن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض
بمثله، ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح أو
يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل؛ فإن قامت دلالة النسخ يحمل
عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه)
وقال: (الأصل أن الحديث إذا ورد عن
الصحابي مخالفا لقول أصحابنا؛ فإن كان لا يصح في الأصل كفينا مؤنة جوابه، وإن كان
صحيحا في مورده فقد سبق ذكر أقسامه إلا أن أحسن الوجوه وأبعدها عن الشبه أنه إذا
ورد الحديث عن الصحابي في غير موضع الإجماع أن يحمل على التأويل أو المعارضة بينه
وبين صحابي مثله)[2]
وهكذا نرى
الإمام مالك يقدم عمل أهل المدينة على أخبار الآحاد، بل يرد بشدة على
[1] تأسيس النظر ويليه رسالة الإمام
أبي الحسن الكرخي في الأصول، عبيد الله عمر بن عيسى الدبوسي أبو زيد ، أبو الحسن
الكرخي، المحقق: مصطفى محمد القباني الدمشقي، دار ابن زيدون ، مكتبة الكليات
الأزهرية، 156.
[2] الأصول لأبي الحسن الكرخي ملحقة
بتأسيس النظر، ص169.