نام کتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام نویسنده : جواد علي جلد : 1 صفحه : 214
أهل الأرضين الآخرون، أو بآلات بسيطة أخرى صنعوها بأيديهم لتعبر أناملهم وأوتار آلاتهم الساذجة عن إحساسهم الحزين، ثم لا يكتفي أصحاب هذه النفوس الرقيقة في الغالب بإرسال نغمات الحس العميقة من آلة، بل يقرنون تلك النغمات الحزينة بنغمات بشرية تنطق بما في قلب الإنسان من حس وألم دفين يوحيه إليه ألم الحرمان، ودغدغة النسيم العليل، وسحر القمر وتلألؤ مصابيح السماء. فتخرج نغمات شجية حزينة، تعاد وتكرر، لتسبح السماء على هذا الجمال الساحر، ولتفسر للسامع نوع الحياة في هذه البقاع التي وهبتها الطبيعة عاطفة عميقة، وسحرًا فاتنًا في الليل، وحرمتها خيرات الدنيا في أثناء النهار، ولتخبره بهذه النغمات المعادة أن الحياة هنا بسيطة لا تعقيد فيها ولا التواء وأنها معدودة محدودة، وعودة وتكرار.
وقد يعجب الغريب من تغزل العرب ب" ريح الصبا"، ومن مدحهم لها إلى حد بلغ الإفراط، فليس في أشعار العالم، ولا في نثرهم، شعر أو نثر فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح. وقد لا يفهم الغريب أي تعليل يقدم إليه ولا يقبله، وخير جواب يقدم إليه هو حضوره بنفسه إلى جزيرة العرب للاستمتاع بلذة "الصبا" في ليلة مقمرة من ليالي الجزيرة، وسيعرف عندئذ سحر دلال "الصبا" وسحر تغزل العرب بها، على عكس "السموم"، التي تشوي الوجوه، وتعمي العيون، فتجعل الشعراء يلعنونها، والناس يتذاكرون ثقلها وشدتها عليهم وما ألحقته بهم من مهالك وأضرار.
والمطر هو غوث ورحمة لسكان جزيرة العرب، يبعث الحياة للأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحوّل وجهها العابس الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ويخرج أهل الحضر إلى البادية للتمتع برؤية البساط الأخضر المطرز بالأزهار، وللاستمتاع بالمنظر الساحر الذي كسا الربيع به وجوه البوادي، ولصيد الغزلان والحيوانات الأخرى التي جاءت هي أيضًا من مآويها لتشارك الطبيعة في فرحتها، ولتشبع نفسها بعد جوع وعطش. وتفرج الإبل، ويَدِرّ لبنها، ويكثر نسلها، وتتضاعف بذلك ثروة أصحابها، ويسير الجمل متبخترا فخورًا بنفسه معتزًّا، بطرًا لا يَقْضَم منها إلا ما يعتقد أنه طعام لذيذ له، يَقْضَم من موضع ثم يتركه بطرًا إلى موضع آخر، وقد كان قبل ذلك من جوعه يأكل كل ما يقع بصره ويراه. أفليس من حقّ العرب
نام کتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام نویسنده : جواد علي جلد : 1 صفحه : 214