وفي سنة سبع وأربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد، وكان السفاح عهد إليه من بعد المنصور، وكان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما، فكافأه بأن خلعه مكرهًا، وعهد إلى ولده المهدي.
وفي سنة ثمانٍ وأربعين توطّدت الممالك كلها للمنصور، وعظمة هيبته في النفوس، ودانت له الأمصار، ولم يبقَ خارجًا عنه سوى جزيرة الأندلس فقط، فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل الأمير فقط، وكذلك بنوه.
وفي سنة تسع وأربعين فرغ من بناء بغداد.
وفي سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير أستاذسيس، واستولى على أكثر مدن خراسان، وعظم الخطب، واستفحل الشر، واشتد على المنصور الأمر، وبلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فعمل معهم أجشم المروزي مصافًا، فقتل أجشم واستبيح عسكره، فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم[1] يسدّ الفضاء، فالتقى الجمعان، وصبر الفريقان، وكانت وقعة مشهورة يقال: قتل فيها سبعون ألفًا، وانهزم أستاذسيس فالتجأ إلى جبل، وأمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم، وكانوا أربعة عشر ألفًا، ثم حاصروا أستاذسيس مدة، ثم سلم نفسه فقيدوه وأطلقوا أجناده، وكان عددهم ثلاثين ألفًا، انتهى.
وفي سنة إحدى وخمسين بنى الرصافة وشيدها.
وفي سنة ثلاث وخمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال، فكانوا يعملونها بالقصب والورق ويلبسونها السواد، فقال أبو دلامة.
وكنا نرجّى من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جلّلت بالبرانس
وفي سنة ثمانٍ وخمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري، وعباد بن كثير، فحبسا، وتخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج، فلم يوصله الله مكة سالِمًا، بل قدم مريضًا ومات، وكفاهما الله شره، وكانت وفاته بالبطن في ذي الحجة ودفن بين الحجون وبين بئر ميمون، وقال سلم الخاسر:
قفل الحجيج وخلفوا ابن محمد ... رهنًا بمكة في الضريح الملحد
شهدوا المناسك كلها وإمامهم ... تحت الصفائح[2] محرمًا لم يشهد
ومن أخبار المنصور، أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة، فبينا هو يدخل منزل من المنازل قبض عليه صاحب الرّصد، فقال: زن [1] جيش عرمرم: أي كثير العدد. [2] الصفائح: هي السيوف العريضة في الجيش: انظر القاموس "243/1".