أمام الخصم حتى لا ينتفع بخيراتها ويزهد في الإقامة بها. وقد درست الكاهنة موقف العرب والمسلمين، وعرفت أنهم عائدون بعد حين كما فعلوا من قبل، فعمدت إلى تخريب المدن والقرى، وهدم الحصون، وحرق أشجار الزيتون والكروم. ويروي المؤرخون قولها للبربر: "إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي، فلا نرى لك إلا خراب بلاد إفريقية كلها، حتى ييئس منها العرب، فلا يكون لهم رجوع إليها آخر الدهر"[1].
ولقد أخطأت "الكاهنة" هدفها وظنت أن المسلمين إنما يقدمون للسلب والنهب والاستيلاء على المدن والذهب والفضة كما كان يفعل الغزاة سابقا، ولم تعرف أنهم حملة رسالة، ومبلغي دعوة، ودعاة إلى دين الله تعالى. وقد عجل هذا الفعل منها بالقضاء عليها، وجعل أهل البلاد من الروم خاصة وأتباعهم من الأفارقة يفرون إلى جزائر البحر، بل ويستغيثون بحسان بن النعمان فيما نزل بهم من خراب[2].
أما بالنسبة لحسان فقد قضى مدة السنوات الخمس يستعد لخوض المعركة الفاصلة ويأخذ لها الأهبة كاملة، واستطاع -من خلال التخابر والاستطلاع- أن يعرف مواطن القوة والضعف في صفوف العدو. وعندما أتم حالة الاستعداد، ووصلته الأمداد من جنوب العرب وفرسانهم وممن انضم إليهم من مسلمي البربر سار إلى الكاهنة، والتقى بها مع جيشها، وتمكن من هزيمتها وقتلها، "واقتحم جبال الأوراس عنوة، واستلحم فيه زهاء مائة ألف"[3].
وكان من ثمرات هذا النصر المبين أن سارع كثير من البربر يطلبون الأمان ويعلنون الإسلام والطاعة، لكن -لما يعرفه حسان من كثرة ارتداد البربر- "لم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من جميع قبائلهم اثني عشر ألفا يكونوا مع العرب مجاهدين، فأجابوه، وأسلموا على يديه"[4]. [1] البيان المغرب "1/ 36"، والكامل "4/ 136، وراجع: تاريخ العرب العربي، للدكتور سعد زغلول عبد الحميد "1/ 187-188". [2] راجع: تاريخ إفريقية والمغرب، للرقيق القيرواني، ص"48-49". [3] العبر لابن خلدون، ج7، ص"9". وراجع: البيان المغرب "1/ 37-38"، الكامل "4/ 136-137". [4] البيان المغرب "1/ 38". ومن الجدير بالذكر أن حسان بن النعمان حينما تحرك بالجيش لمحاربة الكاهنة أدركت أن نهايتها قريبة. وعلى الرغم من أنها لم ترض بالاستسلام ووجدت أن ذلك من العار؛ لأن الملوك لا يستسلمون فإنها رأت أن تأخذ لولديها الأمان، وينضموا إلى جانب حسان. وقد أسلما وحسن إسلامهما، وأصبحا من المجاهدين المسلمين، وعهد حسان إليهما بالقيادة.