إذا كانت هناك طائفة قد مجَّت القياس فهي الظاهرية. لكنها أنكرته في الفقه خاصة. وقد بدا أن بعض النحاة قد دعوا إلى ذلك في النحو أيضاً. والمذهب الظاهري في الأصل مذهب فقهي دعا إليه في القرن الثالث الهجري أبو داود بن علي بن خلف البغدادي إمام أهل الظاهر في المشرق وتولى الدعوة إليه والاحتجاج له والمنافحة عنه في القرن الخامس الهجري الإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، معتقداً أن القرآن إنما يجب أن يُحمل على ظاهره ولا يحال عن ظاهره البتة، اللهم إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئاً منه ليس على ظاهره، وأنه نقل من ظاهره إلى معنى آخر. فالانقياد حينئذ واجب لما يوحيه ذلك النص والإجماع والضرورة. وقد جاء تفصيل ذلك في كتب ابن حزم الأندلسي لا سيما (إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل) .
ابن مضاء والقياس:
عاش ابن مضاء في القرن السادس الهجري فبدا أنه اتخذ مذهبه في النحو على مثال مذهب الظاهرية في الفقه. أي أنه أنكر القياس كما أنكرته وعوَّل على النص كما عوّلت عليه، وذلك في كتابه الشهير (الرد على النحاة) ، لكن هذا لا يتسنى في الأصل لأن في علل النحو من فسحة النظر ما لا تتسع له علل الفقه أحياناً كثيرة. كأن يكون البحث في علة مناسك الحج وترتيبها، وفرائض الصلاة وعدد ركعاتها فتجد مرد وجوبها إلى ورود الأمر بها بحكم الشريعة، أي بالنص. قال ابن جني في الخصائص (1/52-ط /1913م) : (فأول ذلك أنا لسنا ندّعي أن علل العربية في سمت العلل الكلامية البتة، بل ندّعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية) . وأردف: (وإذا حكمنا بديهة العقل وترافعنا إلى الطبيعة والحس، فقد وفينا الصنعة حقها، وَرَبأنا بها أفرع مشارفها) .