أقول إنما ثار ابن مضاء على النحاة وعاف مذهبهم في (العامل) لغلوّهم في التعليل، فاستبعد الجدل النظري والحجاج الفلسفي، وكل ما ينأى باللغة عن طبيعتها وينحرف عن خصوصها، وعوّل على النص وأغفل القياس من هذه الجهة. لكن ابن مضاء قد أخذ نفسه بنوع من القياس، ذلك أنه أقرّ (العلّة) وأبى (علَّة العلَّة) أو العلل الثواني والثوالث، كما أنكرها ابن جني نفسه، وإقرار (العلة) يدعو إلى البحث في العلة الجامعة والتماس القياس الذي لا بد منه. وإلا فكيف يمكن أن تنهض لغة لا يعمل قياس على رسم ضوابطها وشرع حدودها، ويمهد لها سبيل التوليد والنماء ومذاهب الاتساع والارتقاء.
القياس والسماع:
إذا كان التعويل على السماع مرده في الأصل إلى الحرص على ضبط اللغة وكفالة سلامتها أيام كان يعمل الأئمة على حصرها وتدوينها، فينبغي ألا يكون حائلاً دون ما يمكن أن يلتمس فيه علة جامعة فيبنى عليه قياس، في كل ما تدعو إليه حاجة التعبير والاصطلاح فتأذن به طرائق النقل والمجاز وسبل التصريف والاشتقاق. وإلا كان السماع قيداً يحجر اللغة عن التوالد والانبساط ويقصر خطاها عن استجابة أو مؤاتاة. ولا خفاء بأن سبل التصريف وضوابط الاشتقاق لا يشوبها من سرف التعليل في ذكر الأسباب ومسبباتها ما يشوب القياس في قواعد النحو. ومن ثم لم يفضِ التعويل عليها على شيء مما آل إليه الإغراق في قياس النحو وتعليله، من النأي باللغة عن خصوصها وتحيِّف طبيعتها والانزواء بها عن سبيل المعاني إلى الافتنان بصناعة الإعراب، حتى انقبض هذا الإعراب عن أن يكون دليل المعاني وسبيل الإبانة والإفصاح.
وقد أخذ مجمع اللغة القاهري بقياس التصريف والاشتقاق هذا في مؤتمراته حين أجرى القياس في كثير من المشتقات على ما ذكرناه ونذكره في أبوابه.
القياس في صيغ المبالغة: