فلما بلغ يزيد خبر قدومه دعا به ليلاً ولم يعلم أحد بحضوره. ثم قال له: قد عرفت خبرك وإني معجل جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غداً فإني سأخاطبك مخاطبة فيها جفاء، وأزودك نفقة طريقك وأصرفك لئلا يبلغ أبا جعفر المنصور خبري فيهلكني. وأمر له بمائتي دينار وصرفه فلما أصبح أتاه فاستأذنه في الإنشاد فقال له: يا هذا لقد رميت بأملك غير مرمى، وفي أي شيء أنا حتى تنتجعني الشعراء؟ لقد أسأت إليّ لأني لا أستطيع تبليغك محبتك، ولا آمن سخطك وذمك. فقال له: تسمع ما قلت فإني أقبل ميسورك، وأبسط عذرك، فاستمع منه كالمكره. فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم يبلغ ما بقي من نفقتك؟ قال: ثلاثمائة درهم، قال أعطه مائة درهم لنفقة طريقه، ومائة درهم ينصرف بها إلى أهله، واحتبس لنفقتك مائة درهم، ففعل الغلام ذلك، وانصرف مطيع عنه شاكراً، ولم يعرف أبو جعفر خبرهما. حكاية
قال الأصمعي: قصدت في بعض الأيام رجلاً كنت أغشاه لكرمه فوجدت على بابه بواباً فمنعني من الدخول إليه. ثم قال: والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع متك الدخول إليه إلا رقة حاله، وقصور يده، فكتبت رقعة أقول فيها:
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم
ثم قلت له: أوصل رقعتي هذه إليه ففعل. فعادت الرقعة وقد وقع على ظهرها:
إذا كان الكريم قليل مال ... تستر بالحجاب عن الغريم
وأرسل مع الرقعة صرة فيها خمسمائة دينار. فقلت والله لأتحفن أمير المؤمنين بهذا الخبر، " فما مر بي مثله " فجئت إليه، فلما رآني قال لي: من أين يا أصمعي؟ قلت: من عند رجل أكرم الأحياء حاشا أمير المؤمنين. قال: ومن هو؟ قلت: رجل قراني علمه وماله. ثم دفعت إليه الرقعة والصرة " وأوعدت عليه الخبر فلما رآى الصرة اربد وجهه " فقال: هذا ختم بيت مالي، ولا بد لي من الرجل الذي أدفعها إليك. فقلت: والله يا أمير المؤمنين إني لأستحي أن أروعه برسلك، فقل لبعض خواسه: امض مع الأصمعي فإذا أراك الرجل فقل له: أجب أمير المؤمنين من غير إزعاج ولا إظهار شدة. قال: فلما حضر الرجل بين يدي أمير المؤمنين قال: أما أنت بالأمس الذي وقفت بموكبنا وشكوت إلينا رقة حالك وأن الزمان قد أناخ عليك بكلكله؟ فدفعنا إليك هذه الصرة لتصلح بها حالك، فقصدك الأصمعي ببيت شعر واحد فدفعتها إليه. فقال: والله ما كذبت فيما شكوته لأمير المؤمنين من رقة الحال، وصعوبة الزمان، لكني استحييت من الله أن أعيد قاصدي إلا كما أعادني أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين: لله أنت فما ولدت العرب أكرم منك، ثم أمر له بألف دينار. قال الأصمعي: فقلت ألحقني يا أمير المؤمنين فتبسم، وأمر أن تكمل لي ألف دينار وأعاد الرجل من جملة ندمائه. حكاية