المقابسة الثانية والسبعون
في حديث النفس وما يغلب عليها ويصير ديدناً لها
قال أبو زكريا الصميري يوماً لأبي سليمان في حديث النفس وما يغلب عليها ويصير ديدناً لها لا يفارقها ولا يزول عنها: أيها الشيخ، إني أجد في نفسي أشياء هي أركان فكري ودعائم همي وأسس وساوسي.
أحدها: حديث الوالدة، فإني لا أكاد أنساها ولا أذهل عن شأنها وشأني معها، هذا على بعد عهدي بها، وامتداد الزمان بيني وبينها، لأنها صارت إلى جوار الله وأنا غلام.
والثاني: حديث صاحب الشريعة، فإني أسبح فيه أيضاً متعجباً مما خص به وأفرد منه، مع ما عاناه من أقاربه وأباعده، ومع الذي نهض به من أعمال حاله وتدبير أصحابه، ونظم جل أمره ودقة ما كان يلقي، وهي الحال التي توحد بها من بين أهل عصره في نشر الغيب والدعاء إلى الرشد حتى صارت أعجوبة عند من أنكره، وبركة ورحمة على من عرفه ونصره، وسائر ما كان به مشهوراً من أمره الغالب، وشأنه المعجز، ومع الأحوال التي اختلفت وائتلفت ووضحت على الذين عاينوه وخبروه وجاوروه واستنبطوه مما يطول ذكره، وهو بارز لكل أحد، وموضوع على كل مرصد.
والثالث: الموت، وذلك أني ممنوع بتخيله عن كل استمتاع ولذة، أتخيله تخيلاً غالباً موحشاً، وربما غشي فؤادي من ذكره، وباشر صدي من كربه، ما يبلغ بي أني أتمناه لأستريح.
والرابع: الباري عز وجل، وأنه في أعلى أرجاء الفكر، وفي الحد الأقصى