احتفاظ الشعر الجاهلي بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته في الجملة، وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحًا واسعًا، كما يزعم بعض المحدثين كعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والمستشرق مرغليوث وبعض النقاد العرب فإنهم يرون أن معظم الشعر الجاهلي مصنوع في الإسلام؛ لأنه تنوقل بطريق الرواية ولم يدون إلا في أواخر العصر الأموي، وقد كان أكثر رواته لا ينقلون المرويات بأمانة؛ لأسباب أهمها: التنافس في كثرة المروي، والتعصب القبلي والحزبي، والسعي إلى التكسب بالمرويات أو إلى دعم حجة دينية أو لغوية، وقد أثار التساؤلات والشكوك حول الشعر الجاهلي الدكتور طه حسين في كتابه: "في الأدب الجاهلي"، حيث يقول: "فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات ... " ثم يقول بعد ذلك: "ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة، تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة أو تباعدًا في اللغة أو تباينًا في مذهب الكلام، البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما نجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو.
كل شيء من هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما....".
والذي لا ريب فيه أننا نستطيع أن نثق بقسم غير قليل من الشعر الجاهلي لما نراه بوضوح من أثر البيئة وحياة أهلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والعقلية في أدب العرب وشعرهم.
ولما كان الأدب تعبيرًا عن البيئة والإنسان، فقد جاء الأدب الجاهلي ابن بيئة يمثلها في الفطرة والبداهة الشائعتين في أغراضه ومعانيه ولغته وتصاويره، وكان الشاعر في هذا العصر لا يحاول تأليف معانيه، وإنما يرسلها إرسالًا يخلو من الترتيب.