والانتشار والتمدد، وما قاسوا من مشقات النزوح والهجرة وأهوال الحروب وقسوة المعارك، والصراع الدامي في ملحمة لم يعرف تاريخ العقائد لها مثيلًا على مر العصور وكر الدهور.
وقد سدد عزيمتي إلى ذلك أن في الإمكان أن نجتلي في شعر هذه المعارك -برغم قسوتها- عواطف إنسانية عالية من النجدة والفداء، والإيثار والتضحية، والذود عن العقيدة، والتمكين لها في إطار من التاريخ، وأن ننظر في مظاهر الحقائق خلال معارض من الأخيلة والعواطف، فترى الشعر على صنع الخيال وتهويله معربًا عن حقائق التاريخ، مبينًا عقيدة الإنسان وبساطة إنسانيته وسموها.
ولا شك أن تصوير الشعر لهذا الحديث الفذ في تاريخ العقيدة الإسلامية ليس إلا تصويرًا لجوانب الحياة الإسلامية عامة في نفس الوقت؛ إذ إن الحقيقة التي لا جدال فيها أن الفتوح كانت أهم ما شغل حياة المسلمين، سواء من كان منهم تحت ظلال السيوف أو على حافة الميادين، فما من شك في أنهم كانوا يتنسمون أخبارها، ويترقبون ما يمكن أن تسفر عنه هذه الحركة الهائلة. فإذا بأنبائها من يوم إلى آخر تطلع عليهم في أقاصيص ممتزجة بغبار الوقائع وصهيل الخيل وصليل السيوف وصياح المحاربين، وإذا بهذه الروايات تنتشر في ربوع الديار العربية لتشغل كل اهتمامات المسلمين، ولتصبح زادًا لسمرهم، لا يزالون يقصونها ويزخرفونها ويعجبون بها.
ولهذا اندفعت في اختيار هذا الموضوع مقدرًا أهميته التي تتجلى في تصوير هذه الاهتمامات، التي استنفدت منازع المسلمين وشغلهم، وتصوير تلك الحياة الوجدانية الثرة، وتلك التجارب الطريفة التي تعرضوا لها في ظروف جديدة عن حياتهم السابقة كل الجدة، فصاغوها بما تأتي لهم من مشاعر، فكان هذا الشعر الذي يمثل وثيقة تاريخية ونفسية خطيرة في تاريخ الأدب العربي، من حيث كونه مرحلة حية من مراحله طالما أنكرها الدارسون وتجافوا عنها، ومروا عليها عابرين، لا يكلفون أنفسهم أكثر من أن يعزوا إليها موات الشعر أو خموده وضعفه؛ لغلبة النشاط الفكري الإسلامي عليه، نتيجة الاستعاضة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وتعاليم الدين.