الذين يتصيدون لهم في شعر الحرب ما يزعمون أنه يمت إليه بسبب وثيق، وهو في الحقيقة بعيد كل البعد؛ ذلك أن الملحمة الشعرية حكاية لأمر خارق عجيب، أو عمل حماسي عظيم، له أثره في حياة شعب بأسره، وهي فضلًا عن هذا سداها الخرافة، ولحمتها التلفيق.
وقد كانت حروب العرب مع الروم والفرس حوادث أساسية خارقة وعجيبة حقًّا، تناولها الشعراء والرواة والقصاصون، وصنعوا فيها القصائد والأناشيد والحكايات، وربما جسموها بالخيال، وموهوها بالمبالغة. لكننا لا نستطيع ان نعد هذا من شعر الملاحم في شيء؛ فشعر الفتوح شعر غنائي، يتغنى فيه المجاهدون بجهادهم وبلائهم، ويفخرون فيه بشجاعتهم وتفانيهم وفعالهم بالعدو. في حين أن شعر الملاحم شعر قصصي، يُعْنَى بحكاية الأحداث في إطار من التهويل والمبالغة، والإغراق في الخيال.
وبينما نجد مؤلف الملحمة أو مؤلفيها يحرصون على الاختفاء من عصورهم ليظهروا في عصر الموضوع والأبطال الذين تقوم عليهم ملاحمهم، فلا يكادون يذكرون أنفسهم، ولا يكادون يعنون بالتعبير عن عواطفهم الخاصة فيما يقصون من الحوادث، نجد شاعر الفتوح الإسلامية -شأنه شأن غيره من شعراء الحماسة- لا يملك اختيار موضوع بعينه، وإنما هو يصور ابتداء كل ما يعتمل في وجدانه ومشاعره، وما يعيش خلاله من أحداث يظهر وجدانه الشخصي فيما ظهورًا تامًّا وأساسيًّا، فيغني عواطفه الخاصة فيما يعبر عنه من المشاعر، وما يصوره من الأحداث.
وبهذا يدخل شعره في باب الشعر الغنائي عن هذا الطريق، بخلاف شعر الملاحم الذي يدخل في باب الشعر القصصي.
على أنه ينبغي أن نلاحظ بعناية ما يذهب إليه بعض النقاد العرب من المزج بين شعر الملاحم والشعر القصصي مزجًا في باب واحد دونما تفريق؛ إذ يعتبرون كلا منهما مثل الآخر[1]، والحقيقة أن الملحمة قلما تضم شعرًا قصصيًّا، ولكن ليس كل شعر قصصي ملحمة، فإن جاز أن نسمي كل ملحمة شعرًا قصصيًّا فلا يجوز أن نسمي كل شعر قصصي ملحمة.
1 "شعر الحرب في أدب العرب" ص14.