تمهيد:
شعر الفتوح وشعر الملاحم:
هناك فكرة لا تزال تتردد وتشيع لدى بعض الدارسين، وهي أن الشعر الجاهلي الذي قاله أصحابه في أيام العرب ليس إلا ملحمة عربية كبرى، وإن كانت مقطعة الأوصال، وأن في المعلقات الجاهلية، وفي سائر ما نظم الجاهليون لما يُتنخل منه ملحمة عربية كبرى.
وهذه الفكرة تنسحب لديهم أيضًا على التاريخ الحربي للمسلمين، الذي يبدأ بغزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وينحدر إلى حروب الفتوح في ديار فارس وأرض الروم، وسائر الأقطار التي بلغ إليها المسلمون بسيوفهم. فيمثل هذا التاريخ في زعمهم ملحمة، تتكون من أجزاء ملحمية، تصف المعارك وتوجيه العسكر، وثورة العدو واستجاشة العدة، وترسم صورًا للالتحام والكر والفر والإقبال والإدبار، والرمي بالنبل والحجر، والطعن بالسيف والرمح، والخبط بالأعمدة وغيرها. وتصور أيضًا ما ينكشف القتال عنه من قهر أو ظفر، أو اندفاع الفائزين بالغنيمة والفخر، وانطواء الخاسرين على تضميد الجروح وإعداد الثأر[1].
ويجد هؤلاء الدارسون ما يؤكدون به زعمهم فيما أثير مؤخرًا من دراسات بعض النقاد حول هوميروس وملحمتيه المشهورتين، وما انتهى إليه نفر منهم من الشك في شخصيته وإنكارها، وما قرره هذا النفر من أن اسمه ليس إلا عنوانًا فحسب للطائفة الشعرية التي جمعت من أفواه الأقدمين، وأن هاتين الملحمتين ليستا له بتمامهما. ويظلم هؤلاء الدارسون الذين يعتنقون هذه الفكرة أنفسهم، كما يظلمون الأدب العربي، في محاولتهم المتعفسة إيجاد ملحمة عربية على صورة من الصور، عندما يذهبون إلى أن كل شعر طال أو قصر، وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجلاد، هو من شعر الملاحم[2].
ولا يضير العرب في شيء أن يخلوَ أدبهم من الملاحم، وليس يفترض فيهم أن يحتفلوا بهذا الضرب من الشعر، فإن كان فاتهم الاحتفال به فما أشد عسف الدارسين
1 "شعر الحرب في أدب العرب" ص17، 18.
2 "شعر الحرب في أدب العرب" ص16.