نام کتاب : في الأدب الحديث نویسنده : الدسوقي، عمر جلد : 1 صفحه : 186
وتعريف البارودي للشعر غامض؛ لأنه لفه في ثوبٍ كثيفٍ مزخرفٍ بالمجازات والاستعارات، ولم يحدده تحديد علميًّا، وهو يعني: أنه خطرة ذهنية ينفعل لها الفؤاد، فيتحرك اللسان معبرًا عن خلجاته, والخطرة الذهنية تأتي مثلًا من نظرةٍ إلى شيءٍ جميلٍ، أو شيء يبعث الرثاء والأسى، وقد تكون خطرة ذهنية مجردة عن الأثر الخارجيّ، وهذا التعريف يتمشَّى مع مذهب العرب في الشعر, وهو أنه "لمعة خيالية" تومض إيماضًا، فتأتي هذه الخطرات الخيالية غير متصلة, أو مرتبط بعضها ببعض في حلقة متماسكة، أو قصة محبوكة الأطراف, أو خيال ممتد طويل في ملحمة من الملاحم, أو مسرحية من المسرحيات تتابع حوادثها، وإنما هو ومضات تتألق في أبيات وقصيدة لا تربطها وحدة فكرية.
والشعر الجيد في رأي البارودي "ما كان قريب المأخذ سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غنيًّا عن مراجعة الفكرة" وهذه صفة الشعر الغنائيّ, وهي سمة الشعر العربيّ غالبًا، ليس فيه عمق المعنى والتوغل في الخيالات، أو تعقيد الفكرة، وحشد القضايا المنطقية، والفكر المجرد عن الشعور والإحساس، كما ترى ذلك عند أبي تمام والمتنبي أحيانًا, وعند أبي العلاء كثيرًا، وكما نراه مذهبًا من مذاهب بعض شعراء العصر الحاضر، والشعر ليس فلسفةً ولا منطقًا، وقد لا يحتوي البيت كبير معنى، وإنما تطرب له النفوس وتهتز عجبًا، وذلك لأن الشعر غذاء القلوب، وليس مهارة العقول, وهذا ما جعل النقاد قديمًا ينعتون البحتريّ بأنه الشاعر، وأن المتنبي وأبا تمام حكيمان؛ لأن البحتري لم يكن يتكلف في شعره الغوص على المعاني وابتكارها, ولا يستعمل المنطق والفلسفة، بل كان يحذو حذو شعراء الجاهلية والصدر الأول في قرب معانيه, وانسجام ألفاظه بعضها مع بعض، والقائل ردًّا على من عاب عليه بعده عن ثقافة عصره، وعدم أخذه بشيء من الحكمة والمنطلق, وهو يمثل نظرة العرب إلى الشعر:
كلفتومنا حدود منطقكم ... والشعر بغنًى عن صدقه كذبه
لم يكن ذو القروح يلهج بالمنطق ... ما نوعه وما سببه1
والشعر لمح تكفي إشارته ... وليس بالهذر طولت خطبه
1 ذو القروح: امرؤ القيس، ولقب بذلك كما يقولون لأنه أصيب بمرض جلديّ في طريق عودته من لدن ملك الروم, حينما ذهب إليه يستنجد به على قتلة أبيه.
نام کتاب : في الأدب الحديث نویسنده : الدسوقي، عمر جلد : 1 صفحه : 186