رب يوم كمنت فيه خوفاً من أعدائي وطال علي، كما يطول الليل على العاشقين، وكنت أنتظر فيه الشمس حتى تغرب، ليظلم الليل فأسرى فيه وأنجو من أعدائي. وهذا شر حصل من النور، فبطل قولهم: إنه مطبوع على الخير، لا يقدر على الشر.
قال ابن جني: حدثني المتنبي قال: لما أنشدته قال: غيرك يستطيل الليل، فقبحاً له! كيف عرف معناه؟!
وعيني إلى أذني أغرّ كأنّه ... من اللّيل باقٍ بين عينيه كوكب
يقول: كنت أنظر إلى أذني الفرس الأغر، فإن توجس بهما علمت أنه أحس بشيء، فتأهبت في أمري فكأن أذني الفرس قائمان: مقام عيني، وقوله: كأنه من الليل باق: أي كأنه قطعة باقية من الليل.
شبه فرسه بقطعة من الليل؛ لأنه أدهم، وغرته بكوكب في ظلمة.
له فضلةٌ عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدرٍ رحيبٍ وتذهب
الرحيب: الواسع، ويستحب في الفرس سعة الصدر. وإهابه: جلده.
يقول: لهذا الفرس فضلة من جلده تضطرب على صدره الواسع، فتجيء وتذهب. ويستحب في الفرس أن يكون جلد صدره واسعاً فاضلاً عنه. وقيل: أراد بالفضلة ذكاءه، ثم قال: هذه الفضلة تجيء على صدره الواسع: يعني لا يسع هذا الذكاء إلا صدره؛ لسعته، ولا يسع إهابه.
شققت به الظّلماء أدنى عنانه ... فيطغى وأرخيه مراراً فيلعب
يقول: شققت بهذا الفرس ظلمة الليل، فسرت فيها، فكنت إذا جذبت عنانه طغى برأسه: أي رفعه، لطماحه وعزة نفسه، وإذا أرخيته: لعب برأسه، لنشاطه.
وأصرع أيّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
يقول: إذا تبعت به أي وحش كان، لحقته وصرعته، ونزلت عنه وهو على القوة التي ركبته عليها، لم يلحقه تعب وعياء.
وما الحيل إلاّ كالصّديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب
يقول: الخيل وإن كانت كثيرة في عين من لا يعرفها، فالعتيق منها قليل، فهي مثل الأصدقاء يكثرون في العدد ويقلون عند التجربة.
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب
الشية: العلامة كالغرة والتحجيل، وكل لون يخالف لون الجلد.
يقول: إن كنت لا تعرف حسن الخيل إلا في شياتها وأعضائها فالحسن غائب عنك.
لحا الله ذي الدّنيا مناخاً لراكبٍ ... فكلّ بعيد الهمّ فيها معذّب
مناخاً نصب على التمييز، وقيل: على الحال.
يقول: لعن الله هذه الدنيا التي لا ينال فيها المراد، فكل صاحب همة شريفة فيها معذب بإجدابها عليه.
ألا ليت شعري: هل أقول قصيدةً ... فلا أشتكي فيها ولا أتعتّب
ليت شعري: أي ليتني أشعر. وتقديره: ليت شعري كائن، فحذف خبر ليت.
يقول: هل أقول قصيدة وأنا راض عن الزمان؟ لا أشكو صروفه ولا أتعتب عليه!
وبي ما يذود الشّعر عنّي أقلّه ... ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب
قوله: يا ابنة القوم: كناية عن قوله: يا بنت أب جيد التصرف في الأمور.
يقول: بي من الهم ما يمنع أقله الشعر. كما يقال: حال الجريض دون القريض ولكن قلبي متقلب في الأمور. جلد صابر على ما ينويه، ويستخرج المعنى، مع ما فيه من الهموم.
وأخلاق كافورٍ، إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي عليّ وأكتب
يقول: إن كانت الهموم شغلتني عن الشعر، فإني إذا شئت مدح كافور، فإن أخلاقه تبعثني على مدحه، فأكتبه وإن لم أتفكر فيه.
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويمّم كافوراً فما يتغرّب
يقول: من حصل عنده فكأنه في أهله، لما يرى من بره ما يسره. ومثله لآخر:
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وإلطافهم حتّى حسبتهم أهلي
فتىً يملأ الأفعال رأياً وحكمةً ... وبادرةً أحيان يرضى ويغضب
البادرة: البديهة.
يقول: ليس له فعل إلا فيه حكمة ورأي وبادرة، فيملأ ذلك الفعل من هذه الثلاثة.
وبالغ في ذلك حيث جعل: البديهة كالروية من غيره، في امتلائه من الحكمة، ويفعل ذلك في حالتي الرضا والغضب، ولا يمنعه غضبه من الحكمة، ولا رضاه يلهيه عنها.
وقيل: البادرة: ما يبدر عند الغضب.
والمعنى: إذا رضى ملأ أفعاله رأياً وحكمة، وإذا غضب ملأها بادرة وسطوةً، فيبالغ في كلا الحالين.
إذا ضربت في الحرب بالسّيف كفّه ... تبيّنت أنّ السّيف بالكفّ يضرب