لأوجَبَ النقدُ أن يُحْكَمَ باستحقاق التفضيل لصاحب البيت الأخير، وذاك أنّ لقيطَ بن زُرارة ختم بيته بمَثَلٍ جيّد، وأبا نواس ختم بيتَه بتأكيد الكَرَم، ومعناه: أن الممدوحَ يشتري الثناءَ بمالِه على عِلمٍ أنه يجوز أن يفتقرَ، أو يحتاج الى غيره، كما احتاج غيرُه إليه. وأما الآخر فذكَر أنه يُعطي ماله ويشتري به الثّناءَ في الوقت الشديد الذي يجب أن يحفظَ الإنسان فيه مالَه لشدّة الحاجة إليه، وإذا كان يُعطيه في مثل هذا الوقت الصّعب ويبذُلُه أيامَ القَحْط والجَدْب، فكيف يكون في زمانِ الخِصب وتوفّرِ الخيرِ والمَيْرِ. وبمثل هذه الخَصلةِ حُكِمَ لحاتم بن عبد الله الطائي بالجود. وكان حاتم ظَفِراً: إذا قاتَلَ غلبَ، وإذا سُئِلَ وهَبَ، وإذا غنِمَ أنْهَبَ، وإذا أسرَ أطلقَ، وإذا أثْرى أنفق. وكان قد أقسمَ بالله تعالى ألا يقتلَ واحدَ أمّه. وحدّث محمد بن حبيب عن موسى الأحْوَل عن الهيثَم عن مَلحان ابن أخي ماوية امرأة حاتم عن عمّتِه ماوية قالت: أصاب الناسَ سَنَةٌ أذهبت الخُفَّ والظِلْفَ، فبتنا ذات ليلة بأشد جوع ولسنا نملكُ شيئاً، فأخذ حاتم عَدياً وأخذت سَفّانة، فعللناهما حتى ناما، ثم أخذ حاتم يُعللني بالحديث لأنام، فرَقَقْتُ لما بِه من الجهد، فأمسكتُ عن كلامِه وأوهمْتُه أني قد نِمت لينامَ، فنظر من فُتْقِ الخِباء، فإذا شخصٌ مقبلٌ، فرفع رأسَه فإذا امرأة تقول: يا أبا سَفّانة، أتيتُك من عند صِبيَةٍ جِياع، فوثَب مُسرِعاً، وقال: هاتيهم، فوالله لأُشبعنّهم، فلما جاءتْ بهم وأنا مفكّرةٌ فيما يريد أن يصنع، قام عجِلاً الى فرسِه ولم يكُنْ يملك سواه، فذبحَه واشتوى فأشبعهم، ثم قال: والله، إنّ هذا لهُو اللّوم، كيفَ تأكلون وأهل الصِّرم حالهم كحالكم، فجعل يأتي الصِّرْم بيتاً بيتاً ويقول: عليكم النارَ، فاجتمعَ عليه عددٌ لم يتركوا منه شيئاً وهو متقنّعٌ بكسائه قد قعدَ حَجْرةً، فوالله ما ذاق منه لَماظا. فهذا والله الكرمُ المَحْضُ، والجودُ الخالِصُ، وإذا كان جودُه في مثل تلك الحالةِ هكذا فكيف يكون في سواها.
هذا آخِر الفصل الأول، ولعلّ الناظرَ فيه يستطيلُ أبوابَه ويستعظمُ إسهابَه، خصوصاً وقد اشترَطْنا في أوّله الاختصارَ ووعَدْنا أن نتجنّب الإكثار، ولو علِمَ الناظرُ فيه ما قد خلّفناهُ بعدَنا ونبَذْناهُ وراءَنا من المعاني الغريبة، والأشعارِ العجيبةِ، لعرَفَ موضِعَ الاختصار، ووفاءَ ما وعَدْنا به من الاقتصار. هذا مع الإعراضِ عن كثير من أشعار المُحدَثين والمُتَقدمين من المجيدين. واللهُ الموفِّقُ للصّوابِ.
الفصل الثاني
فيما يجوزُ للشاعر استعمالُه وما لا يجوز
وما يُدركُ به صواب القولِ ويجوز
الذي يجوز للشاعر المولّد استعمالُه في شعره من الضرورة هو جميع ما استعملَتْه العرب في أشعارها من الضرورات سوى ما أستَثنيه لك، وأبيّنُه لدَيْك. والمولّد في ضرورات شعره وارتكاب صعابها أعذرُ من العربيّ الذي يقول في لغته بطبعه.
أما الذي لا يجوز للمولّد استعمالُه، ولا يُسامَح في ارتكابِه فهو جميعُ ما يأتي عن العرب لَحْناً لا تسيغُه العربيةُ ولا يجوّزه أهلُها سواء كان في أثناء البيت أو في قافيتِه، فإنّ اللحنَ لا يجوزُ الاقتداءُ به، ولا النزولُ في شُعَبِه.
فمن ذلك اللحنُ الذي سمّوْهُ جرّاً على المجاورة. قال الشاعر:
فيا معشرَ الأعرابِ إنْ جازَ شُرْبُكم ... فلا تشربوا ما حَجّ للهِ راكبِ
شَراباً لغزوانَ الخبيثِ فإنّه ... يناهيكُم منه بأيْمانِ كاذِبِ
وهذا لَحْن قبيح، وصوابُه ما حجّ لله راكبُ. وقال آخر:
أطوفُ بها لا أرى غيرَها ... كما طافَ بالبَيْعَةِ الراهِبِ
جعل الراهبَ مروراً على الجوار وهو لحْنٌ قبيح، وصوابه: كما طاف بالبيعةِ الراهِبُ. وقال آخر:
كأنّ نسْجَ العنكبوتِ المُرْمَلِ
وصوابه المُرْمَلا وأما قول الآخر:
كأنّ ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِهِ ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزمَّلِ
فله وجهٌ قد ذكرهُ أبو الفتح وهو أنه أراد مُزَمَّلٍ فيه، فحذفَ حرف الجرِّ فارتفع الضميرُ فاستتر في اسم المفعول، وقد وردَ من هذا شيء كثير، كقول الآخر: