كأنّما ضرَبَتْ قُدّامَ أعيُنِها ... قُطناً بمُسْتَحْصِدِ الأوتارِ محلوجِ
وصوابه محلوجاً. وكل ذلك إنما أتوا به بناءً على ما ورد عن العرب من قولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، وليس الخَرِبُ من صفة الضَبّ قال الخليل بن أحمد: قولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، إنما ورد عنهم من طريق الغلط، والدليل على ذلك أنهم ثَنَّوا لم يقولوا إلا جُحرا ضَبٍّ خَربان، لأن الغلط ههنا يَبينُ، وإنما وقع في الواحد لاجتماع الجحر والضبّ في الإفراد. وكذلك إذا جمعوا فإن الغلطَ يرتفعُ نحو قولِك: هذه جُحْرَة ضِبابٍ خَرِبَة. والمُحقِقون من أهل العلم لا يُجيزونَ العمل على الجوار، وما نحنُ بالمُغَلِّبين قولاً على قول، ولا لنا في ذلك غرَضٌ، وإنما المُولَّدُ من الشعراء لا يجوز له العمل على المجاورة، ولا ود ذلك لأحد من المولّدين المُجيدين، ولا أجاز العلماءُ بالشعر لهم ذلك، سواء كانت العرب أصابَتْ فيه أو أخطأَتْ، المقصودُ أنه محظورٌ على المولّدين.
ومما لا يجوز للمولَّدين استعمالُه، ما استعملَتْه العربُ من التقديم والتأخير، والفصل الذي لا وجهَ لشيء منه، ولا يجوز للمولّد الحذوُ عليه، ولا الاقتداء به، فإنّه لحنٌ مُستَقبَح، كقول الشاعر:
لها مُقلتا حَوراءَ طُلَّ خميلةً ... من الوحشِ ما تنفكُ ترْعى عَرارُها
أراد: لها مُقلتا حوراء من الوحش ما تنفكُ تَرعى خميلةً طُلَّ عُرارُها. وقال الآخر:
فقدْ والشَّكُ بيّن لي عَناءٌ ... بوَشْكِ فِراقِهم صُرَدٌ يصيحُ
أراد: فقد بيّن لي صُرَدٌ يصيحُ بوشْكِ فراقِهم والشّكُ عناءٌ. وقال الآخر:
فأصبحتْ بعد خَطِّ بهجتِها ... كأنّ قفراً رُسومَها قَلَما
أراد: فأصبحتْ بعدَ بهجتِها قفراً كأنّ قلَماً خطّ رسومَها ومثل ذلك كثير. وقد ترى ما في هذه الأبيات من الفصول والتقديم والتأخير، ومثل هذا لا يجوز للأعراب المتقدمين فضلاً عن المولّدينَ المتأخرين. ولا يجوز لأحدٍ أن يتخذهُ رسْماً يعملُ عليه.
ومما لا يجوز للمولّدين الاقتداءُ به ولا العملُ عليه لأنه لحنٌ فاحشٌ الإقواء في القافية، وذاك أن يعمل الشاعرُ بيتاً مرفوعاً وبيتاً مجروراً، كقول النابغة:
أمِن آلِ ميّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِ ... عجْلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّدِ
زعم البوارحُ أنّ رِحلتَنا غداً ... وبذاك خبّرَنا الغُرابُ الأسودُ
ويا للعجب كيف ذهب ذلك عن النابغة مع حُسْنِ نقدِه للشّعر وصحّة ذوقِه وإدراكِه لغوامض أسرارِه، وقد عرَفْتَ ما أخذه عن حسان بن ثابت مما تحارُ الأفكارُ فيه، ولمّا نُبِّه على موضعِ الخطأ لم يصل الى فهمِه ولم يأبَه له حتى غنّت به قَينَةٌ وهو حاضر، فلمّا مدّدَتْ، خبّرَنا الغرابُ الأسودُ، وبيّنت الضمة في الأسود بعد الدال فطِنَ لذلك وعلِم أنّه مُقْوٍ فغيّره وقال: وبذاك تنعابُ الغُرابِ الأسودِ. وكقول مُزرِّد بن ضِرار من أبيات:
ألم تعلمِ الثعلاءُ لا دَرَّ درُّها ... فَزارةُ أنّ الحقَّ للضّيفِ واجبُ
ومنه:
تشازَرْتُ فاستشرفْتُه فرأيتُهُ ... فقلتُ له: آأنتَ زيدُ الأرانبِ؟
وكقول حسان بن ثابت:
لا بأسَ بالقَوْمِ من طولٍ ومن عِظَمٍ ... جِسمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ
كأنهم قصبٌ جُوفٌ أسافِلُه ... مثَقَّبٌ نفخَتْ فيه الأعاصيرُ
ولا يكون النصب مع الجرّ ولا مع الرفع في الإقواء. ولعمري إن الجميع لحْنٌ مردود، ولا وردَ عنهم شيءٌ من ذلك، وإنما يجتمع الرفعُ والجرُّ لقربِ كل واحد منهما من صاحبِه. ولأنّ الواوَ تُدغَم في الياء، وأنهما يجوزان في الرِّدفِ في قصيدة واحدة، فلما قرُبَت الواو من الياء هذا القُرب تخيّلوا جَوازَها معها وهو خطأ وغلط، وليس للمُقيَّدِ مَجْرى، أعني حركة حرف الروي، وإنما هو للمطلق، وأظنّ أنّ من ارتكبَ الإقواءَ من العرب لم يكنْ ينشِدُ الشِّعرَ مطلقاً، بل ينشدُهُ مُقيَّداً ويقف على قافيتِه، كقول دريد بن الصّمّة:
نظرتُ إليه والرماحُ تنوشُهُ ... كوقعِ الصّياصي في النسيجِ المُمَدَّدْ
فأرهبتُ عنه القومَ حتّى تبددوا ... وحتى علاني حالِكُ اللون أسْوَدُ