يُتاحُ الهِجاءُ لهاجي الهِجا ... ءِ داءً عُضالاً لداءٍ عُضالِ
وقد أورَدْنا هذه الأبيات لموضِعِ استقباحِ عُيوبِها وتشبيهِ أحوالِ المَهْجوّ به تأكيداً لقُبْحها في النفسِ وتحريضاً على اجتنابِها لرَفْعِ اللَّبس.
ومما يجوزُ للشاعرِ المولّد ارتكابُه من الضرورة في شعرِه أن يصرفَ ما لا ينصرف لأن أصل الأسماء كلِّها الصرفُ، وإنما طرأتْ عليها عِللٌ منعَتْها من الصَرف، فإذا صرَفَ الشاعرُ ما لا ينصرِف فقد ردّه الى أصله. قال الشعر:
لم تتلفّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها ... دعْدٌ ولم تُغْذَ دعدُ بالعُلب
العُلَب جمع علبة وهي قدَحٌ من خشب ضخم يُحلَبُ فيه، فصرَفَ دعداً وترك الصّرْفَ في بيت واحد. وأما أن يأتي الشاعرُ الى ما ينصرفُ فيتركُ صرفَه فلا يجوز لأنه إخراجُ الشيءِ عن أصله، وإخراجُ الأشياءِ عن أصولِها يُفسِدُ مقاييس الكلام فيها. واحتجّ الأخفشُ على جَواز ذلك بقولِ العباس بن مرداس السُّلَميّ وهو:
فما كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ ... يفوقانِ مِرداسَ في مَجْمَعِ
فترك صرفَ مرداسٍ وهو اسمٌ منصرف. وقال أبو علي: هذا لا يقاس عليه، وأقول: إنّ هذا لا يجوز فعله لأنّه لحن قبيح.
ومما يجوزُ للشاعر المولّد استعماله ضرورةً قصْرُ الممدود ولا يجوز له مدُّ المقصور لأنه خروج عن الأصل، وأماقصْرُ الممدود فهو ردّ الشيء الى أصله. قال الشاعر:
بكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها ... وما يُغني البُكاءُ ولا العويلُ
فقصَرَ البكاءَ ومدّه في بيت واحد.
ومما لا يجوز الاحتجاجُ به في مدِّ المقصور؛ لأنه على غير أصل الوضع الذي اتفقَ العلماءُ عليه قول الفرزدق:
أبا حاضرٍ مَنْ يَزْنِ يظْهَرْ زِناؤهُ ... ومن يَشْرَبِ الخُرطومَ يُصبحْ مُسَكَّرا
فمدّ الزِّنى وهو ممدود في لغة أهل نجد، والقَصْر فيه لأهل الحجاز وهي لغة القرآن وعليها الاعتماد وعلّة من مدّ الزِنى أنه جعلَه فعلاً من اثنين، كقولك راميتُه رماء وزانيتُه زناء، ومن قصَرَهُ ذهب الى أنّ الفعل من أحدِهما؛ وفي الجملة فإنّه منقول مقول لا يُقاس غيرُه عليه، ويُكتَبُ الزنى في القصر بالياء لأنّه من: زَنى يَزني. فأما قول الآخر:
سَيُغنيني الذي أغناكَ عني ... فلا فَقْرٌ يدومُ ولا غِناءُ
فالرواية الصحيحة أن يكون أوّلُه مفتوحاً لأنّ معنى الغِنى والغَناء واحد، والشعرُ إذا اضطرّ الى مدِّ المقصورِ غيّر أولَه ووجّهَهُ إلى ما يجوز استعمالُه، كقول الراجز:
والمرءُ يُبليه بَلاءَ السِّربالِ ... كرُّ الليالي وانتقالُ الأحوال
فلمّا فتح الباء من البلى ساغ له المدّ. ومثلُ هذا كثير.
ويجوز للشاعر الاجتزاء بالضمة عن الواو ضرورة كقول الشاعر:
فبَيْناهُ يَشْري رَحْلَه قال قائلٌ ... لمنْ جمَلٌ رِخْوُ المِلاطِ ذَلولُ؟
كان الأصل: فبينا هو، فلما اجتزأ بالضمة حذف الواو.
ويجوز للشاعر المولّد أن يرُدّ المنقوص الى أصله في الإعراب ضرورةً، فيضمّ الياءَ في الرفع ويكسرها في الجرِّ، كما تُفْتَح في النصب لأنّ الضمّة والكسرة منويتان مقدرتان في الياء وإنْ سقطَتا، فيقول في قاضٍ في حال الرفع قاضيٌ وفي حال الجرِّ قاضيٍ، غيرَ مهموز، وكذلك في جواري وغواني. قال الشاعر:
تراهُ وقد فاتَ الرُماةَ كأنّه ... أمامَ الكلابِ مُصْغيُ الخَدِّ أصْلَمُ
فضمّ ياءَ مُصغ. وقال عُبيد الله بن قيْسٍ الرُّقيّات:
لا باركَ اللهُ في الغواني هل ... يُصبِحْنَ إلا لهنّ مُطَّلَبُ
فكسر الياءَ في الغواني. وقال الآخر:
ما إنْ رأيتُ ولا أرى في مدّتي ... كجواريٍ يلعبْنَ في الصحراءِ
فاستعملَ ضَرورتين: إحداهما كسرُ الياء، والأخرى صرفُ ما لا ينصرف. فأما قول الفرزدق:
فلو كان عبدُ اللهِ مولىً هجَوْتُه ... ولكنّ عبدَ اللهِ مولى مَوالِيا
فتقديرُه أنه وقفَ على الياء على مذْهَبِ من يقِفُ عليها من العرب. فلما تمّ الاسمُ برجوع لامِه امتنع حينئذ من الصّرف لأنّ وزنَه صار بالياء مفاعل بعد ما كان مفاعٍ، فلما اضطر الى حركته لإقامة الوزن فتحه في موضع الجرّ كما تُفتحُ مساجِدُ.
فأما قول الراجز:
يحْدو ثماني مولَعاً بلِقاحِها