ومما يجوزُ للشاعر المولّد استعمالُه عندَ الضرورة في شعرِه الخَرْم، بخاء مُعجَمة وراء غير مُعجمة، وهو حذفُ أوّل متحرّك من الوتِد المجموع في أول البيت، والوتِدُ المجموع حرفانِ متحركان بعدهما ساكنٌ مثل: غَزا، رمَى، ولا يدخلُ الخَرْمُ على بيت أولُه سبَبٌ أو فاصلة، وأكثرُ ما يجيءُ في أوّل البيت من القصيدة وربما جاء في غيره من الأبيات. قال الشاعر:
كُنا حسِبْنا كلَّ بيضاءَ شحْمةً ... لياليَ لاقَيْنا جُذامَ وحِمْيَرا
أراد أن يقول: وكنا فحذفَ الواو. وقال الآخر:
كانت قناتي لا تلينُ لغامِزٍ ... فألانَها الإصباحُ والإمساءُ
وأكثرُ ما يُحذَف للخَرْمِ حروفُ العطفِ مثل الواو وأخواتِها وإنْ كان الخرْمُ يجيءُ بغير ذلك. وقد أجاز بعضُ العروضيين الخرمَ في أول النصف الثاني من البيت وشبّهه بأوّل البيت وأنشد عليه قولَ امرئ القيس:
وعَينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ ... شُقّتْ مآقيها من أُخَرْ
أراد أن يقول: وشُقّتْ. وأنشدوا في خَرْمِ أول البيت وفي أول النصف الثاني منه، وهو غير مُستحسَن ولا ينبغي العمل به، قول الشاعر:
أبْدَلَني بتَيْمِ اللاتِ رَبي ... حنظلةَ الذي أحيا تميما
أراد أن يقول: وأبدَلَني بحنظلة فحذفَ الواوَ من أوّل النصف الأول، والباءَ من أول النصف الثاني.
وحديثُ أبي تمام مع أبي سعيد المَكفوف، لمّا عُرِضَتْ عليه قصيدتُه البائية التي مدحَ بها عبدَ الله بن طاهر، وإنكارُه الخرْمَ في أول البيت منها معروفٌ لأنّ العلماءَ بالشعرِ لا يستحسِنونَهُ وإنْ كان مُجَوَّزاً مُستعملاً وهو قوله:
هُنَّ عوادي يوسفٍ وصواحِبُهْ ... فعَزْماً فقِدْماً أدركَ الثأرَ طالبُهْ
وأما الخزْمُ بخاءٍ معجمة وبراءٍ معجمة فما يجوز للشاعر المولدِ استعمالُه ولا يُسَوَّغُ له تعاطيه أبداً، وهو زيادةُ كلمةٍ يأتون بها في أوائل الأبيات يُعتدّ بها في المعنى ولا يُعتدّ بها في الوزن، وإذا أُريدَ تقطيعُ البيت حُذِفَتْ تلك الكلمةُ الزائدة وهي تُستعملُ في جميع البحور كما قال الشاعر:
أُشْدُدْ حيازيمَك للموتِ ... فإنّ الموتَ لاقِيكا
والبيت من الهَزَج ولا يستقيمُ إلا بإسقاطِ أُشْدُدْ. وقال الآخر:
المُسيَّبُ بنُ شَريكٍ اليومَ عالمٌ من العلماءِ
لا يستقيم تقطيعُه حتى يُحذَفَ من أوله المسيّب.
وربما كان الخزمُ في أول البيت حرْفاً أو حرفين كما قال الكندي:
وكأنّ ثَبيراً في عَرانين وبْلِه ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزمّلِ
ألا ترى أنّ الوزنَ لا يستقيم حتى تسقُطَ الواو، وعلى ذلك يُروى. والأصل في الرواية الصحيحة ثُبوت الواو، وكذلك أنشدَه العروضيون واحتجوا به. وقد جاء من طريق الشذوذ الخزْم في نصف البيت كقول الشاعر:
يا نفسِ أكْلاً واضطجا ... عاً يا نفسِ لسْت بخالدَة
والبيتُ من مجزوءِ الكامل متفاعلن أربع مرّات ولا يصحّ إلا بإسقاط يا من نصف البيت ويُجْتَزأ بحرفِ النداء في أول البيت فاعرفْ ذلك. وقد جوّزوا أن تُحذفَ من القافية الياءُ في مثل قول الشاعر:
وقَبيلٌ من لُكَيْزٍ شاهِدٌ ... رهْطُ مرجومٍ ورهطُ ابنِ المُعَلْ
وهو يريدُ المُعَلّى. وقد جوّزوا أيضاً تخفيفَ المُشَدّد في مثل قول الشاعر:
دعَوْتُ قومي ودعوْتُ معْشَري ... حتى إذا ما لمْ أجِدْ غيرَ الشّرِ
كنتُ امرءاً من مالِكِ بنِ جعْفَرِ
فخفّف الراءَ من الشّرّ. وقال المُبرد: لم يرِدْ الشّر وإنما أراد السّريَّ بسين غير معجمة وهو اسمُ رجلٍ شُبِّهَ بالسَّريِّ وهو نهرٌ فحذفَ إحدى الياءين فبقي السَّري فخفّف الياءَ.
فهذه نُبذةٌ في هذا الفصل يُستَغْنى بها عن غيرِها، ولُمعَةٌ يُكْتَفى بها عن سِواها، فربَّ قبَسٍ أغْنى عن مِصباح، وغلَس اجتُزِئَ به عن صَباح.
الفصل الثالث
في فضلِه ومنافِعِه وتأثيرهِ في القلوبِ ومواقعِه