أما الشعرُ فإنه ديوان الأدب، وفخر العرب، وبه تُضرَب الأمثال، ويفتَخِر الرّجالُ على الرجال، وهو قيدُ المناقبِ ونظامُ المحاسنِ، ولولاهُ لضاعَتْ جواهرُ الحِكَم، وانتثرت نجومُ الشّرَفِ، وتهدّمتْ مباني الفضل، وأقوَتْ مرابِعُ المجدِ، وانطمسَتْ أعلامُ الكرمِ، ودرَستْ آثارُ النِّعَم. شرَفُه مخلّدٌ، وسُؤدُدُه مجدّدٌ، تَفْنى العصورُ وذِكرُه باقٍ، وتهوي الجبالُ وفخرُه الى السماء راقٍ، ليس لما أثْبَتَه ماحٍ، ولا لمَن أعذَرَه لاحٍ.
مات سُحَيمٌ عبدُ بني الحَسْحاس، وله ذِكر أضْوَع من المسكِ وأنضرُ من الآسِ، ولولا الشعرُ لما عُرِف، ولا بالإجادةِ وُصِفَ، وكم في بني حامٍ، من مجهول طَغامٍ، ولا يُذكَر ولا يُشْكَر. وقد قيل: إنّ إبراهيم بن المهدي لما اعتذر الى المأمون، وكلامُهُ معروف، قال للمأمون في جوابِ قوله له: أنتَ الخليفةُ الأسودُ: وأما كوني أسودَ فقد قال عبدُ بني الحَسْحاس:
أشعارُ عبد بني الحَسْحاسِ قُمْنَ له ... يومَ الفَخارِ مقامَ الأصلِ والوَرِقِ
إنْ كُنتُ عبداً فنفسي حُرّةٌ كرَماً ... أو أسودَ اللونِ إني أبيضُ الخُلُقِ
فقال المأمون: لوَدِدْت أنهما لي بجميع مُلكي، يعني البيتين.
ولولا زهير لما ذُكِر هَرِمٌ، ولا جرى بمدحِه قلَم. ماتا وبَلِيا، وتمزّقت أوصالُهما وفَنِيا، وذِكرُهما غضٌ جديدٌ، وصيتُهما باقٍ مديدٌ، هذا لفضلِه وهذا لإفضالِه، ولولا الشعرُ لما ذُكِرا ولا عُرِفا.
وحكى الرُّهني في كتابهِ الذي سماهُ ذخائر الحكمة، يرفعُهُ الى سالم بن عبدِ الله بن عمر عن أبيه عبد الله أنه قال: كنا ذات يومٍ عند عمرَ بن الخطاب رضيَ الله عنه إذْ قال: من أشعرُ الناس؟ فقلنا: فلانٌ وفلان، فبينما نحن كذلك إذْ طلَعَ عبدُ اللهِ بنُ عباسفسلّم وأجلسَهُ الى جنبهِ ثم قال: قد جاءَكُم ابنُ بَجْدَتِها. من أشعرُ الناس يا بنَ عبّاس؟ قال: ذاك زهيرُ بن أبي سُلمى، قال: فأنشِدْنا شيئاً من شعرِه نستدلُّ به على ما تقول، قال: امتدحَ قوماً من غطَفان يُقالُ لهم بنو سِنان فقال:
لوْ كان يَقْعُدُ فوقَ الشمسِ من بشَرٍ ... قوم بأوّلِهم أو مجدِهِم قعَدوا
قومٌ سِنانٌ أبوهم حين تَنسُبُهمْ ... طابوا وطابَ من الأولادِ ما ولدوا
إنسٌ إذا أمِنوا جِنٌ إذا فزِعوا ... مُرزَّؤونَ بَهاليلٌ إذا جُهِدوا
مُحسَّدونَ على ما كان من نِعَمٍ ... لا ينزِعُ اللهُ عنهم ما له حُسِدوا
فقال عمر رضي الله عنه: قاتَلَهُ الله يا بنَ عباس لقد قال كلاماً حسناً ما كان يصلُحُ إلالأهل هذا البيتِ من بني هاشم لقرابَتِهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعظمَ ما مدَحَ به بني سنان وطلب له مُستَحِقاً فما رأى إلا بني هاشم.
وهذا جريرُ بنُ الخطَفى مع لُؤم أصله، وضِعَة بيتِه، وقِلّة أهْليهِ، وخُمولِ جدّه وأبيه، قد رفعَهُ شعرُه، وعمّرَه قولُه، فهو مخلّدٌ باقٍ، وعليه من الفناء بشعرِه واقٍ، ولقد شُيِّدَ بذكره ذكرُ يربوع، وشُهِر اسمُهُ بين المحافلِ والجموعِ، وضاهى الفرزدقَ وناواهُ، وجاهرَهُ بالأهاجي وعاداهُ، مع شَرَفِ الفرزدق وكرَمِ أصلِه. ولولا الشعرُ لكان بنَجْوَةٍ عن مُجاراةِ مثلِه، حتى ذكر الفرزدقُ آباءه، وقال:
أولئكَ آبائي فجئني بمثلِهم ... إذا جمَعَتْنا يا جريرُ المجامِعُ
ولقد ذهب امرؤ القيس وأبوه، وملكُه وأهلوه، وغبَرَ شعرُه وكلامُه، وعُمِّرَ قولُه ونظامُه. وكم من ملِكٍ في كِندة ذهبَ وذهبَتْ منه العُدَد والعِدّةُ فما تُحَسُّ نبأتُه، ولا يُعرَفُ اسمُه ولا سمَتُه. ولقد ذهبَ مُلْكُ التبابعةِ والأكاسرة، وزالَ سُلطانُ المَقاوِلِ والأساورَة ولم يبْقَ لهم سوى بيتٍ سائرٍ، من مديح شاعرٍ، ولولا مدائحُ زياد الذُبياني لما عُرِفَ الملِكُ ابنُ الجُلاح، ولا ضاعَ له أرَجُ ثناءٍ ولا فاح، وكذاك أبوه الجُلاح فلولا أبو أُمامة، لما كان عليه من سِمَةِ الذِّكر علامة:
ماتَ الجُلاحُ ولم يمُتْ ... ما قالَ فيه أبو أمامه
ولقد كانت العربُ تَعُدُّ الشّعرَ خطيراً، وترى الشاعرَ أميراً، فإذا نبغَ في القبيلة شاعرٌ هُنِّئَتْ به، وحُسِدَتْ من سبَبه، لأنه ينافِح عن أنسابِها، ويكافِح ويناضلُ عن أحسابها.