كمْ كان في الأوْسِ من أميرٍ ... ماتوا جميعاً سِوَى عَرابهْ
أحْياهُ بعدَ المماتِ بيتٌ ... لشاعِرٍ إذْ دَعا أثابَهْ
لعلّه كان في الذُنابَى ... فردَّهُ الشِّعرُ في الذُّؤابهْ
ألا ترى الى أبي دُلَف العِجْليّ كيفَ رفعَه، على ضَعَةِ بيتِه ودناءَةِ بني عِجْلٍ، فإنكَ لا تجدُ فيهم ممدوحاً سواه، قول ابن جبلة:
إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بنَ باديهِ ومُحتَضَرِهْ
فإذا ولّى أبو دُلَفٍ ... ولّتِ الدُنيا على أثَرِهْ
وكان أبو الصّقْر بنُ بُلبلٍ لا يُعدّ من ذوي الأصول الثابتة، ولا ذوي الفروعِ النابتةِ، حتى مدحَه ابنُ جُريج بقوله:
قالوا أبو الصّقْرِ من شيبانَ قلتُ لهم ... كلاّ لعَمْري ولكن منهُ شيبانُ
وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرَى شرَفٍ ... كما عَلا برسولِ اللهِ عدنانُ
ولم أقصِّرْ بشيبانَ التي بلغَتْ ... بها المبالغَ أعراقٌ وأغصانُ
فصار في سَرواتِ الممدوحين، وبمدحِه يتمثّلُ المتمَثِّلون. وكان بنو قُرَيْع يُدعَون أنفَ الناقةِ فيَغضَبون لذلك، ويسخَطون منه، فلمّا مدحَهم الحُطيئة بقوله:
قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم ... ومَنْ يُسوّي بأنفِ الناقةِ الذّنَبا
رضوا به وصار من أكبر مفاخرِهم، ولولا الشعرُ لعدّوه من أقبحِ ألقابِهم.
وخبَرُ الحُطيئة مع الزِّبرِقان بن بدْرٍ وما كان من زوجته أمِّ شَذْرَة وتقصيرها في حقّه ومراسلة بني أنفِ الناقة له حتى استفْسَدوه ونَقلوه إليهم، مشهورٌ مذكور. ولمّا خُيِّرَ الحُطيئة اختار بني أنفِ الناقة على الزِبرِقان فشقّ ذلك عليه، وأرسل الزبرقان الى رجل من النَّمِر بن قاسطٍ يُقال له دِثار بن شيبان وأمرهُ أن يهجوَهم فقال النَّمَري من أبيات:
وقد ورَدَتْ مياهَ بني قُرَيْعٍ ... فما وصَلوا القرابَةَ مُذْ أساؤوا
فاحتاج الحُطيئة عند ذلك أن يهجوَ الزبرِقان بن بدر فهجاهُ بأبياتٍ منها:
دعِ المكارمَ لا تنهَضْ لبُغيَتِها ... واقعُدْ فإنّك أنتَ الطاعِمُ الكاسي
فلمّا بلغتِ الزبرقان استعدى عليه عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هجاني، فلما استنشَدَه قال عمر: لا بأس بذلك، فقال أرسِل الى حسان بن ثابتٍ وسلْهُ أهجاني أم لا، فقال حسان: نعم هجاهُ وسلَحَ عليه، فحبسَه عمر، فكتب إليه الحطيئة من الحبس أبياتاً منها:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مرَخٍ ... حُمْرِ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجَرُ
ألقيْتَ كاسِبَهُم في قعْرِ مُظلمةٍ ... فامْننْ عليهِ هداكَ اللهُ يا عُمَرُ
فأثّر الشعرُ عند عمر فاستتابَه وأطلقَه. ولو أن الحطيئة قد شتم الزبرقان بغير الشعرِ لما تأثّر بشتمِه، ولما كان شعراً رآه بقوله: فأنت الطاعمُ الكاسي، قد جنى عليه وأساءَ إليه.
ولمّا هَجا الحطيئة بني العجلان استعدوا عليه عمرَ بن الخطاب فقالوا هَجانا وشعّث من أعراضِنا، قال عمر: وما قال؟ قالوا: قال فينا:
إذا اللهُ عادَى أهلَ لُؤمٍ ودِقّةٍ ... فعادى بني العجلانِ رهطَ ابنِ مُقبِلِ
قال عمرُ دَعا عليهم. قالوا إنه قال:
قُبيّلَةٌ لا يغدِرون بذِمّةٍ ... ولا يظلِمون الناسَ حبّةَ خردَلِ
قال عمر: هؤلاء قوم صالحون ليتَني منهم وليست آل الخطاب كانوا منهم. قالوا إنه قال:
ولا يرِدون الماءَ إلا عشيةً ... إذا صدرَ الوُرّادُ عن كلِّ منهَلِ
قال عمر: ذاك أخفُّ للزِحام وحينئذ يصفو الماء ويطيب الوِرْدُ. قالوا إنه قال:
وما سُمّي العجْلانُ إلا لقِيلهم ... خُذِ القَعْبَ واحْلُبْ أيها العبدُ واعجَلِ
فقال عمر: سيّدُ القومِ خادِمُهم وأصغَرُهم شَفْرَتُهُم. قالوا إنه قال:
تعافُ الكلابُ الضارياتُ لحومَهُم ... ويأكُلْنَ من كعبِبن عوفٍ ونَهْشَلِ
فقال عُمر: كفى ضَياعاً من تأكُلُ الكِلابُ لحمَه، قالوا: يا أمير المؤمنين ليس هذا من عملِكَ فلو أرسلت الى حسّان بن ثابت فسألته، فأرسل الى حسّان فسألهُ: أهَجاهُم؟ قال لا يا أمير المؤمنين ولكنْ سلحَ عليهم.