إنّك يا بِشْرُ لَذو وهمٍ وهمّْ ... في زَجْرِكَ الطّيْرَ على إثْرِ النّدَمْ
أَبْشرْ بوقْعٍ مثلِ شُؤبوبِ الرِّهَمْ ... وقطْعِ كفّيكَ ويُثْنى بالقَدَمْ
وباللسان بعدَها وبالأشَمّْ ... إنّ ابنَ سُعْدى ذو عِقابٍ ونِقَمْ
فلما أتوا به قال له أوسٌ: هجَوْتَني ظالماً، فاختَر بين قطْع لسانِك وحبسِك في سَرَبٍ حتى تموت، وبين قطعِ يديك ورجليْك وتخليةِ سبيلك. ثم دخل على أمِّه سُعْدى وقد سَمِعَتْ كلامه فقالت له: يا بُنيّ لقد مات أبوك فرَجوْتُك لقومِك عامةً، وقد أصبحتُ - والله - لا أرجوك لنفسِك خاصةً، ويحكَ أزَعَمْتَ أنّك قاطِعٌ رَجُلاً شاعِراً؟ ومتى كانت الشعراءُ تُعامَل بغير الإحسان؟ فإنْ كنتَ زعمتَ أنّه هجاك، فمَنْ يمحو إذاً ما قالَه فيك؟ قال: فما أصنَعُ به؟ قالت: تكسوهُ حُلَّتَكَ وتحْمِلُهُ على راحلتِك وتأمُرُ له بمائة ناقة، عساهُ يغسِلُ بمديحِهِ هجاءَهُ. فخرج من عندِها فخلّى سبيلَه وأحسنَ إليه وفعل أضعافَ ما أمرتْهُ به أمّه. فامتدحَه بِشْرٌ فأكثر، ورَحضَ عنه الدَّنَس والوَضَر.
قال الأخفش: مدحَ بِشْرٌ أوساً وأهلَ بيتِه مكان كلِّ قصيدةٍ هجاهم بها قصيدةً، وكان قد هجاهُم بخَمسٍ فمدحَهُم بخمس. فمن ذلك كلمته المختارة:
كَفى بالنّأي من أسماءَ كافِ ... وليسَ لحُبّها إذ طالَ شافِ
فكان الأمرُ كما قالَتْهُ أمّه، إذ مَحا بِشْرٌ بمدحِه ذَمَّه.
وفي هذا الباب من تأثير الشِّعْرِ وزَماجِرِ أسودِ الغِضابِ، ما يكثرُ منه العجبُ العُجاب، وفيما أوردناهُ كفاية لذوي الألباب.
الفصل الرابع
في كشفِ ما مُدِحَ به وذُمّ بسببه وهل تعاطيهِ أصلح، أم رفضه أوفر وأرجح
أمّا مدْحُ الشّعرِ على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم وألسُنِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ تعالى عليهم أجمعين فكثيرٌ غزير، لا يُنْكِرُ ذلك إلا غمْرٌ من الأدبِ فقير. وفي الاقتداء بهِم والاقتفاء لمنهجِهم رشادٌ لا يضِلُّ سالكُه، ومِهادٌ لا يُزَحْزَح مالِكُه، وزَنْدٌ لا يُصلِدُ قادِحُه، وإمدادٌ لا يُنزَفُ ماتِحُه. فمن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: ( ... منَ الشعرِ لَحِكمة) ، وفي موضع آخر (إنّ من الشعرِ لحِكما) . هذا قولُه، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطبقُ عن الهَوى بعدَ أن قال الله تعالى في شأن داودَ عليه السلام: (وآتَيْناهُ الحِكمةَ وفصْلَ الخِطابِ) . وقال تعالى: (ولوطاً آتَيناهُ حُكْماً وعِلْماً) ، فجعل صلى الله عليه وسلم بعضَ الشِّعر جُزْءاً من الحكمةِ التي خصّ اللهُ تعالى بها أنبياءَه ووصفَ بها أصفياءَه، وامتنّ عليهم بذلك إذ جعلَهم مخصوصينَ بها من قِبَلِه، ومغمورينَ بفخرِها من جهَتِه، وناهيكَ بذلكَ فضيلةً للشعرِ والشعراء، ومَزيّةً عظُمَ بها قدرُ الأدبِ والأدباء. وقال صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت: (أنت حسّانُ ولسانُك حُسام) ، وهذا الكلام من بابِ الجِناس المُطْمِع. ولولا الشعرُ لما جعلَ لسانَه حُساماً على المجاز، لمضائِه في القول والرَّهْبَة من قوارصِه، كما يمضي الحُسامُ في الضريبةِ ويُخاف من غُروبِه عند المُصيبة. وقالصلى الله عليه وسلم لحسّان أيضاً: (أجِبْ عني، اللهُمَّ أيّدُهُ بروح القُدُس) . وقالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان منبراً في المسجد ينافحُ عنه بالشعرِ عليه. ويقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (إنّ اللهَ تعالى ليؤيد حسّانَ بروحِ القُدُس) وقال له: (أُهْجُهُم) أو قال: (هاجِهِم وجبريلُ معَك) . وحدّثتْ عائشةُ أنها سمِعَتْ رسول الله عليه الصلاةُ والسلامُ يقولُ لحسان: (إنّ روحَ القُدُسِ لا يزالُ يؤيّدُك ما نافَحْتَ عن الله تعالى وعن رسولهِ عليه السلام) .
وروى ابنُ أبي بُرَيْدَة فيما أسنَدَه قال: أعان جبريل عليه السلام حسّانَ بنَ ثابت في مديحهِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسبعينَ بيْتاً، وفيهَ نظَرٌ. وفي غيرِ خبرٍ أنّه صلى الله عليه وسلم قال لحسّان: (هيِّج الغطاريفَ على بني عبد مُناف، واللهِ لَشِعرُكَ أشدّ عليهم من وقْعِ السِّهام في غلَسِ الظّلام) .