ورُويَ أن قُرَيشاً لما هجَتِ الأنصارَ أتَوْا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم واستأذنوهُ في هِجائِهِمْ فأذِن لهم، فأتَوْا كعبَ بنَ مالكٍ وكان وصّافاً للحَربِ، فعمِلَ شِعراً فقال لهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (ما صنَعَ شيئاً) . فأتوا عبدَ الله بنَ رَواحة وكان وصّافاً للجنّة، فقال شعراً، وأتَوْا به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (ما صنَعَ شيئاً) ، فأتَوْا حسّانَ بنَ ثابت فقال: ما كنتُ لأفعلَ حتى يأمرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكان حسّان أعرفَ الناسِ بهجاءِ قُرَيشٍ في الجاهلية، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: يا حسّانُ إنّ أبا سُفيان قد هَجاني وقرابَتُه مني ما قد عرَفْتَ، فكيفَ تصنعُ؟ فقال: يا رسولَ الله لأسُلّنَّكَ منهُ كما تُسَلُّ الشّعْرَةُ منَ العجينِ، فقال له: هلْ عندَكَ من شِعرٍ يا حسّان؟ فأخرجَ لسانَه فإذا هو مثلُ ذنبِ الحيّة. فقال لهُ: اذْهَبْ فإنّ جبريلَ معكَ. فكان ممّا هجا حسّان به أبا سُفيان قولُه:
وأنتَ منوطٌ نِيطَ في آلِ هاشمٍ ... كما نِيطَ خلفَ الرّاكبِ القَدَحُ الفرْدُ
وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرتُ عبدَ الله بن رَواحة فقالَ وأحسنَ، وأمرتُ كعبَ بنَ مالك، فقال وأحسنَ، وأمرتُ حسّانَ بنَ ثابت فشَفَى واشْتَفى) . وقال عبدُ الله بنِ عبّاس: تعلّموا الشِّعرَ فإنّه أولُ عِلْم العربِ وهو ديوانُ الأدب، وعليكم بشعرِ أهلِ الحجاز، فإنّه شِعرُ الجاهليّة وقد عُفيَ عنهُ. وقال عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه: تحفّظوا الأشعارَ وطالِعوا الأخبار، فإنّ الشِّعرَ يدعو الى مكارم الأخلاقِ ويعلِّمُ محاسِنَ الأعمالِ، ويبعثُ على جميلِ الأفعالِ، ويفتُقُ الفِطْنةَ، ويشحَذُ القريحةُ، ويحدو على ابتناءِ المناقبِ وادّخار المكارمِ، وينهى عن الأخلاقِ الدنيئةِ، ويزجُرُ عن مُواقَعَةِ الريَبِ، ويحضُّ على معاني الرُتَبِ. وقال أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه: علِموا أولادَكم الشعرَ فإنّهُ يعلّمُهم مكارمَ الأخلاقِ. وأوْصَى الرشيدُ الكسائيَّ بالأمينِ والمأمون، فكانَ من جملةِ وصيتِه: ورَوِّهِما من الشِّعرِ فإنّهُ أوفى أدبٍ يحُضُّ على معالي الرُتَب. وقالَ معاوية: علّموا أولادَكم الشِّعرَ فإنّي أدركتُ الخِلافةَ ونلتُ الرئاسةَ ووصلتُ الى هذه المنزلةِ بأبياتِ ابنِ الإطنابةِ، فإنني يومَ الهرير كُلّما عزمتُ على الفِرارِ أنشدتُ قولَه:
أبَتْ لي عِفّتي وأبى بَلائي ... وأخْذي الحمدَ بالثَّمنِ الرّبيحِ
وقولي كُلّما جشَأَتْ وجاشَتْ ... مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتَريحي
فأثبتُ وأقول: مكانكِ تُحمَي أو تستَريحي.
ولمّا قدِمَ الحجاجُ بنُ يوسفَ العراقَ جَفا الشُعَراءَ جفاءً اتصلَ خبرُهُ بعبدِ الملكِ بنِ مروان فكتب إليه: بسمِ اللهِ الرّحمن الرّحيم، من عبدِ اللهِ عبدِ المَلك الى الحجّاج بنِ يوسف، أمّا بعدُ: فقد بلغَني عنك أمرٌ كذّبَ فَراستي فيك، وأخلفَ ظنّي عندَك، وهو إعراضُكَ عن الشِّعْرِ والشُعراء؛ فإنّكَ لا تعرِفُ فضيلةَ الشِّعْرِ ولا تعْلَمُ مواضِعَ كلامِ الشُعراءِ ومواقِعَ سهامِهِم، أوَ ما علِمتَ يا أخا ثقيف أنّ بالشعرِ بقاءَ الذِكْرِ ونماءَ الفخْرِ، وأنّ الشعراءَ طُرُزُ المملكةِ، وحُليّ الدولة، وعناوينُ النِّعمةِ، وتمائِمُ المَجْدِ، ودلائِلُ الكرمِ، وأنهم يحُضّونَ على الأفعالِ الجميلةِ، وينهوْنَ عن الخلائِقِ الذميمةِ، وأنهم سَنّوا سبيلَ المكارِمِ لطُلاّبِها ودلّوا بُغاةَ المحامِد على أبوابِها، وأنّ الإحسانَ إليهم كرَمٌ، والإعراضَ عنهم لُؤمٌ وندَمٌ، فاسْتَدْرِكْ فارِطَ تفريطِكَ، وامْحُ بصوابِك وحْيَ أغاليطِك.