ومن فضيلة الشِّعرِ أنّ العُلَماءَ بالأدبِ لا يستطيعونَ نظْمَ البيتِ الفَذِّ منه، مع عدَمِ الطبيعةِ في نظمِهِ والمِنْحَةِ من اللهِ تَعالى في تأليفِه لقولِه تعالى: (وما علّمناهُ الشّعرَ وما ينْبغي له) ، فعَزى تعليمَهُ إليهُ سُبحانَه وجعلَه من جُملةِ هِباتِه للمخلوقِ وزينتِه التي يكسوها من يشاءُ، كما قال تعالى: (يَزيدُ في الخَلْقِ ما يشاءُ) . ولولا أن تكون هذه المَزيّةُ، والفضيلةُ السَّنِيَّةُ، مَوْهِبةً من اللهِ تعالى لما تعسَّرَتْ على العُلماءِ مع معرفَتِهم بأدواتِها وقبضِهم على أزِمّةِ آلاتِها، وتسهّلَتْ على الخِلْوِ من الأدبِ، والنِّضْوِ في مسارح ذلكَ الصَّبَبِ حتى يقولَ ما لا يعرفُ تعليلَهُ، وينظمَ ما يجهلُ فروعَهُ وأصولَهُ.
ومن فضيلةِ الشعرِ أنّ الكلامَ المنثورَ، وإنْ راقَتْ ديباجتُهُ ورَقّتْ بهجَتُهُ، وحسُنَتْ ألفاظُهُ، وعَذُبَتْ مناهلُهُ، إذا أنشدَه الحادي، وأوردَه الشادي، ومدّ به صوتَهُ المطرِبُ، ورفَعَ به عقيرتَهُ المنشدُ، لا يُحرّكُ رزيناً، ولا يُسلي حزيناً، ولا يُظهِرُ من القلوبِ كميناً، ولا يخَوِّنُ من الدّمْعِ أميناً. فإذا حُوِّلَ بعينِهِ نظماً، ووُسِمَ بالوزنِ وَسْماً، ولَجَ الأسماعَ بغيرِ امتناع، ومَلَكَ القلوبَ كما تُملَكُ الإماء في الحروب، وقبضَ على الجوارحِ قبْضَ الجبائِرِ على الجرائِحِ، فكمْ من نَفْسٍ استعادَتْ بهِ نفسَها، وكمْ من مُهْجَةٍ ذهبَ بها واختلَسها، وكم من كريمٍ أحياهُ ومن لئيمٍ أرداه، وكم من فقيرٍ أغناهُ، وكم من غنيٍّ أخلاه، فضيلةٌ لم تكنْ إلا لهُ أبداً. والشِّعرُ معدِنُ تفضيلٍ وإعجازٍ يُشَجِّعُ الجبانَ الوَكِل، فلا فرار عندَهُ ولا نَكَل. ويسمَحُ البخيلُ وإنْ برِمَ، ويسْتَصبي الشّيْخَ وإنْ هرِم. فمُعْجزاتُه باديةٌ، وآياتُه رائحةٌ غاديةٌ.
وأما من ذهبَ الى ذَمِّه وتنَقُّصِه لسوءِ فهمِه، فإنّما هو مُتَمسِّكٌ بشُبَهٍ لم يعْرِفْ تأويلَها، مُسْتَنِدٌ الى حُجَجٍ لم يعلمْ تعليلَها، خابِطٌ في عشواءَ مُظلِمَةٍ، مُتورِّطٌ في خوْضِ وعْثاءَ مُؤلمة.
والذي تمسّكَ به الذامُّ قولُه عليه السّلام: (لأنْ يمتلئَ جوفُ أحدِكم قَيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ لهُ من أنْ يمتلئَ شِعْراً) . القَيْحُ: المِدّة لا يُخالطُها دَمٌ، ويَرِيَه: من الوَرْي والاسم الوَرى بالتحريكِ، ومنهُ الدُّعاء: سلّطَ اللهُ تعالى عليهِ الوَرى وحُمّى خَيْبَرى. يُقالُ ورَى القَيْحُ جوفَهُ يَرِيَهُ وَرْياً إذا أكلَهُ.
قال عبدُ بن الحَسْحاس:
وراهُنَّ رَبّي مثْلَ ما قدْ ورَيْنَني ... وأحْمى على أكبادِهِنّ المكاوِيا
وهذا حديثٌ يشهدُ لنفسِه بأنهُ صلى الله عليه وسلم قصدَ به زماناً مُعَيَّناً، وخصّ به قوماً مُعَيّنينَ، ولم يُجِزْه على الإطلاق؛ دليلُ ذلك ما مدحَ الشّعرَ به وأعظمَهُ بسببه، وكونُه عليه السلام سمِعَ الشِّعْرَ في الرّجزِ والقصيد، واستَنْشدَهُ وتمثّلَ به مكسورَ الوزنِ، وفي رِواية: صحيحَ الوزنِ، وأمرَ شراءَه بهجاء مَنْ هجاهُ، وحثّ عليه ودعا إليه. ولهُ شعراءٌ معروفونَ من الأنصار وغيرهِم، ولم يبْقَ أحدٌ من صحابتهِ إلا وقال الشِّعْرَ قليلاً أو كثيراً، وأنشدَ واسْتنشدَ وتمثّل به واحتجّ، وكاتَبَ وراسلَ. وإذا ثبَتَ أنه لقومٍ مخصوصين، وبطَلَ أنه للعمومِ والإطلاقِ، كانَ في تأوُّلهِ ضرْبٌ من التّكَلُّفِ.
ولا بأسَ بذكرِ شيءٍ مما قد تأوّلهُ بهِ العلماءُ. فمن ذلك ما رواهُ الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يمتلئَ جوفُ أحدِكم قيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ له من أن يمتلئَ شِعراً هُجيتُ به) ، وفي حديث عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها من مهاجاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قُلنا: هذا حديثٌ لا يَصِحُّ من وجوهٍ: منها: أنّ الكلبيّ قد طعَنَ عليهِ أصحابُ الحديثِ، وقولُه غيرُ موثوقٍ به عندَهم.
ومنها أنّ حِفْظَ البيت الواحد مما هُجِيَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم به، يَري قَيْحُهُ ولا يَتوارى قُبْحُه فضلاً أن يمتلئَ الجوفُ به.