ومنها أنّهُ لو أراد بهِ هِجاءَ نفسِه الشريفةِ لصرّحَ بكُفْرِ المُتَلفِّظ به فضلاً عن المتحفِّظِ له المالئِ بطنَه به؛ إذ لا خِلافَ بينَ المسلمين أنّ مَنْ سَبّ رسولَ الله فقد كفَر، والسبُّ جزء من الهَجْو. وإذا بطَلَ ذلك كان المرادُ به ذمَّ من جعلَ دأبَهُ تحفُّظَ الأشعارِ الرقيقةِ، والأهاجي الدقيقةِ حتى شغلَهُ ذلك عن معرفة ما يجبُ عليه من أمر دينه وإصلاحِ دنياه.
وقيل: إنّما عنَى شُعراءَ أعداء اللهِ وأعداءِ رسولِه الذين هجَوْا وثلّموا أعراضَ أصحابِه، ورَثَوْا قتلَى المُشركين ببَدْرٍ وغيرِه، وأبّنوهُم وذَكروا فضلَهم. ولما كان حفظُ ذلك من الأوضارِ الدنيئة، قابلَهُ صلى الله عليه وسلم بالقَيْحِ الذي تعافُه النفسُ وتنفرُ منهُ الطبيعةُ مُبالغةً في قَذارتِه.
وقال أحمدُ بنُ حنبل رحِمَه اللهُ تعالى: إنّما يُكْرَه من الشِّعرِ الهجاءُ والرقيقُ الذي يُتَشبَّبُ فيهبالنساء فتَهيجُ له قلوبُ الفتيان. فأما سوى ذلك فما أنفَعهُ.
وقال النضْرُ: كيفَ تمتلئُ أجوافُنا - يعني بالشِّعرِ - وفيها القرآنُ والفِقْهُ والحديثُ وغيرُ ذلك. وإنما كان هذا في الجاهلية، فأما اليومَ فلا، وتمسَّكَ الذامُّ للشِّعرِ والشُعراء بقوله تعالى: (والشعراءُ يتّبِعُهم الغاوُونَ، ألَمْ ترَ أنّهم في كلِّ وادٍ يَهيمون وأنهم يقولون ما لا يَفعلونَ) . والجوابُ عن ذلك أنّ المتمسِّكَ بذلكَ المُحْتَجّ به لا عِلْمَ له بمعاني القرآن المجيد، فإن هذه الآية مختصةٌ بشعراء الجاهلية.
ورُوي عن عِكرمة أنه قال: معنى هذه الآية أنّ شاعرَيْن تَهاجَيا بالجاهلية، فكان مع كلّ واحدٍ منهما فريقٌ من الناس يتّبعُهُ، ويحفظُ عنه ما يختَرِعهُ.
ورُوي عن الحسنِ في قوله تعالى: (ألمْ تَرَ أنهم في كلّ وادٍ يهيمون) أنه قال: قد رأينا أودِيَتَهم التي كان يهيمونَ فيها مرّةً في مديحٍ ومرّةً في هجاء.
ورُويَ عن ابن مجاهدٍ أنه قال: إنّما يَهيمونَ في كلّ فنٍّ يَفْتَنّونَ فيه من فنونِ الشعرِ.
وقيل في قوله تعالى: (وأنّهم يقولونَ ما لا يَفعلون) ، أي يدّعونَ على أنفسهم أنهم قتَلوا وما قتَلوا، وزَنَوْا وما فعلوا، وما شابَه ذلك ... وأقوالُ المفسّرينَ في ذلك كثيرةٌ شهيرة، ولا نزاعَ في اختصاصِ الآية بشعراء الجاهلية حتى نُبسِّطَ القولَ في ذلك. ثم مِنْ جهْلِ المحتجّ على الشُعراء بهذهِ الآية كونهُ لم يعلمْ بمَنْ استُثْني فيها، وتَلا أوَّلها ونسِيَ آخرَها وهو قولُه تعالى: (إلا الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ وذكَروا اللهَ كثيراً وانتصَروا من بعدِ ما ظُلِموا) . الذين آمنوا هُمُ المُخضرمونَ كانوا جاهليةً وأدركَهُم الإسلامُ فحسُنَ إيمانُهم، ثمّ وصفَهم تعالى بعمَلِ الصالحات لما أجابوا مُنادي الرسولِ واتّبَعوا سُنّتَهُ القويمةَ ووقفوا عندَ أوامرهِ ونواهيهِ، وأثنى عليهم بكثرة ذكرِهم لله تعالى، وذَكَر حُلومَهُم الرزينةَ بقوله: (وانتصَروا من بعدِ ما ظُلِموا) . فإنّهم لما هجَتْهُمْ قُريشٌ وهيّجَتْهُم، وبدأتْهُم بالأذى وأحفظَتْهم، استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأذِن لهم في الانتصارِ منهم، فكيفَ تركَ ذكْرَ هؤلاءِ وما قد وصفَهُم اللهُ تعالى به، واحتجّ بذكرِ شعراء الجاهلية، لوْلا العدولُ عن الحقّ والحَيرَة في تلكَ الطُرق.