وتمسّك الذّامُّ للشِّعر والشُعراء بقول مَنْ قال: الشعرُ أخبثُ طُعمة تؤْكَل، وأفحشُ صِناعةٍ تفعمَل، وأرجسُ قِدْحٍ يُلْمَس، وأبخسُ ثوبٍ يُلبَس، لأن قولَ شاعرِه زُورٌ وثناءهُ غُرورٌ، ولفظهُ فُجور، وهو مُستثْقَلٌ مهجور، إنْ بعُدَ خِيفَ شَذاهُ، وإن قرُبَ لم يُومَنْ أذاه، وإنما غايةُ الشاعر إذا اسحنفرَ في مَيدانِه، وأطلقَ عِنانَ لسانِه، وتبوّعَ في القولِ بجُهدِه، وتدرّع في الوصفِ بجدِّه، واحتفلَ لبلوغِ شأوهِ عندَ من يجتديهِ، وترامَى الى أقصى بُغْيَتِه عندَ من يعتريه ويعتفيه، أن يُفرِّقَ في وصفِ جمَلٍ ويُطنِبَ في مساءلة طَلَل، ويبكي على رسْمٍ داثرٍ، ويقِفَ ويستوقفَ على رُمادٍ ثائر، ويرحِّل النوقَ والجمالَ، ويصفَ قطْعَ المفاوزِ وتعسُّفَ الرمالِ، ويذكرَ ورودَ المياهِ الأواجنِ، ومصاحبةَ الغِلانِ والسَّعالى في تلك المخارمِ. وأيُّ عقْلٍ أقلُّ، ورأيٍ أجوَرُ وأضلُّ، من عقلِ رجُل انتصبَ لسماعِ ذلك، ورأي شاعرٍ أتعبَ نفسَه وكدّ حِسّهُ في وصفِ بقَرٍ وسؤالِ حجرٍ.
ثم إنّ الشاعرَ إذا نظمَ قِطعةً، واختطفَ معنىً، استصغرَ من الشعراء الصّدْرَ الأوّل، واستحقرَ من العلماءِ الخليل والمفَضَّل، وليس عنده سوى لُمَع قد أخذها من بطون الكُتبِ وصحّفها من مُتونِ الصُّحُف، ولم يتدرّجْ الى معرفة أدبٍ بطولِ صُحْبَة ولا بقديمِ رياضةٍ، وإذا لم تَطُلِ الصُحبةُ لم تُعرَفِ المظَنّةُ، وللعِلمِ سرٌّ، مَنْ قصّر عن مكانِه لم يُعَدَّ من إخوانِه.
وكم من شاعرٍ قد ابتُلي به مَنْ أنعمَ عليه وأحسنَ إليه، فقابلَ الإحسانَ بالإساءةِ، والإنعامَ بالانتقام، وحُسْنِ الصنيع بقُبحِ التضييع، حتى أذاقَه بعدَ حلاوةِ مدائحهِ ومرارةَ هجائه، وجرّعهُ غُصَص ثَلبه ومضضَ ذمّه، ناقِضاً لما أبرَم، هادِماً لما شيّدَ، ومكذِّباً نفسه فيما قدّم، لا تصْرِفُه عنهُ أنَفَةٌ، ولا يرْدَعُهُ حياءٌ، ولا يقذُعُه دينٌ، ولا يزَعُهُ تُقَى.
وكم من كريمِ الطرفينِ، عالي الجدَّيْن، صريح النسب، صحيحِ الحسَب، عظيم الرُتَب، شريفِ الأم والأب، قد قذَفَه بهَجْو، زَنيمٌ في نسبهِ، لئيمٌ في ادّعاءِ أبٍ غيرِ أبيه، وضيعٌ قدْرُه، حقيرٌ أمرُه.
وكم من حُرّةٍ كريمةٍ وعفيفةٍ مأمونةٍ، ومخَدَّرةٍ مصونةٍ، قد هتَك الهجوُ خِدرَها، وكشفَ عنها سِتْرَها، فشمِلَها العارُ، وحلّ بها الشَّنار؛ فهي لا تطيقُ لذلك دِفاعاً ولا تجدُ منه امتناعاً. وأيّ مصيبةٍ أعظمُ ورزِيّةٍ آلمُ من شاعرٍ رمَى حُرمةَ مُحسنٍ إليه بقَذْعِه، ووسمَ جهةَ مُنعمٍ عليه بقذفِه، فلزمَهُ عارُ هجائهِ لزومَ طوْقِ الحمامةِ، الى يومِ القيامة، وإنما يُكرَمُ الشاعرُ مخافةً من شرِّه، وحَذَراً من بذيء لسانِه وقلِّ دينِه وعدمِ مُروءَتِه. وقد قال عليه السلام: (إنّ شرّ الناسِ من أُكرِمَ مخافةً من شرِّه) .
ومتى أنشدَكَ شاعرٌ هِجاءً قد مزّق به عِرْضَ مُسلمٍ أو عَرَضَ عليكَ سبّاً قد قذَفَ به حُرمةَ بريءٍ مُستسْلِمٍ، فإنما قصدَ بذلك أن يُريَك حُمّتَه، ويذيقَكَ سِمامَهُ، ويعرِّفَكَ كيف يفوِّقُ سِهامَهُ، ويخوِّفَك ميسَمَهُ، ويحذِّرَكَ مِكواتَهُ.
فكم من كريمٍ جعلَهُ الشعرُ بخيلاً، وصريحٍ في قومهِ تركَه دخيلاً، وشُجاعٍ صيرهُ جباناً، وأمين غادرَه خَوّاناً. ألا ترى الى أبي نواسٍ وإحسنِ بني برْمَكٍ إليه، وإقبالِه بالمدائِحِ عليهم، وإقبالِهم بالصِّاتِ عليه؛ فمن جملةِ قوله فيهم:
سَلامٌ على الدُنيا إذا لم يكُنْ بها ... بَنو برْمَكٍ من رائِحينَ وغادِ
وقد عرفَ الناسُ كافةً اشتهارَ بني برمَكٍ بالجودِ واختصاصَهم ببذلِ الموجودِ، فلم يستحي أبو نواس من إحسانِهم إليهِ وتكذيبِ الناس له حتى وسمَهُمْ بالبُخلِ، ودعاهُم بالشح، خارقاً للإجماعِ فيهم، وجاحداً لاصطناعِهم له، حتى قال من جُملة هجائِه فيهم:
بني برْمَكٍ باللّؤْمِ والبُخْلِ أنتُمُ ... حقيقونَ لكِنْ قد يُقالُ مُحالُ
وقد يهجو جعفراً:
ولو جاءَ غيرُ البُخْلِ من عندِ جَعْفَرٍ ... لما أنزلوهُ منه إلاّ على حُمْقِ
أرى جعفراً يزدادُ لؤماً ودقّةً ... إذا زادَهُ الرحمنُ في سَعَةِ الرِّزْقِ
وكذلك صنع أبو نواس مع الخَصيب فإنّه بعد قوله فيه: