إذا لم تزُرْ أرضَ الخصيبِ رِكابُنا ... فأيُّ فتىً بعدَ الخصيبِ تزورُ
يقول:
خُبْزُ الخصيبِ مُعلَّقٌ بالكَوْكَبِ ... يُحْمى بكلِّ مثقّفٍ ومشَطَّبِ
وهذا أبو الطّيِّبِ وفدَ على كافورٍ الإخشيديّ مُستَميحاً، وقدِمَ عليه يوسِعُه ثناءً ومديحاً، فمِنْ جُملةِ قوله فيه:
قواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غيرِه ... ومَنْ قصَدَ البحْرَ استقلّ السواقِيا
فلما واصلَهُ كافورٌ بصلاتِهِ وأسرفَ في بذْلِ أموالِه لهُ وأعطياتِهِ، كرّ راجعاً عليه بذَمِّه، نافثاً في فَمِ عِرضِهِ قواتِلَ سمِّه. وقد قال عليه السلام: (حرامٌ على النفسِ الخَبيثَةِ أنْ تخرجَ من دارِ الدُنيا حتى تُسيءَ الى مَنْ أحسنَ إليها) . ولما سُئِلَ أبو الطيبِ عن موجِبِ ذمِّه كافوراً زعمَ أنه منعَهُ من قصدِ المُلوكِ، وإراقةِ ماءِ محيّاه لدى الغني والصُّعلوك، وضمِنَ له على نفسهِ العوَضَ عمّا خيّلتْهُ المطامعُ في ذلكَ الغرَض. ولم يقدرْ على الاحتجاجِ بتقصيرٍ صدرَ من كافور، فهل هذا ذنبٌ استحقّ بهِ أن يقولَ بعدَ ذلك المدح فيه:
من علّمَ الأسودَ المَخْصيَّ مَكرُمَةً ... أقَوْمُهُ البيضُ أمْ آباؤهُ الصِّيدُ
ولو عدَدْنا مَنْ فعلَ ذلك من الشُعراء، ومن قابَلَ منهم الإحسانَ بالذّمِّ والهجاءِ، لصنَّفْنا في ذلك كُتُباً، وأوردْنا منه طريفاً عجَباً.
هذا زُبدَةُ من مَخَّضَ وِطابَهُ في ذمِّ الشعرِ والشُعراء، ونبذِه ونبْذِهمْ من الجَفوةِ بالعَرا والعراء. وسنذكُرُ الجوابَ عن ذلك مختصراً إن شاءَ اللهُ تعالى.
الجوابُ وبالله التوفيق: اعْلَمْ أيّها الذامُّ، أصلحكَ اللهُ تعالى، أنّ الحقّ غيرُ ما توخّيْتَ، والصِّدقَ غيرُ ما آخيْتَ، ومَنْ نازَعَ في أمرٍ ولم ينافِرْ الى حاكمٍ غيرِ نفسِه، لم يظْفَرْ بمحجّةٍ حُجَجِه وكشْفِ لَبْسِه، ومن سوّلَ لهُ الشيطانُ في خلواتِه أمْراً فرضيَ بهِ، وأطْباهُ هواهُ لغرَضٍ فقادَه الجهلُ إليه، لم يزَلْ في مضَلّةٍ عن الحقِّ وحَيْرةٍ مظلمةٍ في تلك الطُرُق؛ والعُجْبُ بالرأي آفةُ العقلِ، والقلوبُ مع الأهواءِ سريعةُ التقلُّبِ؛ سيّما إذا لم يكنْ لَها قائدٌ من الإنصافِ بصير، ولا معينٌ من الإرشادِ نصير. ولم يكُنْ لأوَدِها مثقِّفٌ ولا مُقوِّمٌ، ولا في مُجْهِلها هادٍ ولا معلِّم، ومن رضيَ شيئاً شَنِئَ ضدّهُ، واحتجّ لباطلِه جُهْدَه، وتسخّطَ ما خالَفَه، وأنكرَ منه ما عرَفَه، وكان لِما انهدَم منه مُشيِّداً، ولما شرَدَ من محاسنِهِ مقيّداً، وعمّا عرضَ عن مساوئِهِ حَيوداً مُعْرِضاً.
وليسَ من العدلِ ما أنتَ عليهِ، ولا من الإنصافِ ما ذهبتَ إليه، والعِلمُ غير ما توهّمتَ، والأدبُ ليسَ كما زعمتَ. وإنّما العِلمُ مَنيعُ الحِمى، صعْبُ المُرتَقى، لا يُنالُ بالمُنى، ولا يُدرَك بالهُوَيْنا، ولن يَحْظى به إلا مَنْ أحبّهُ لنفسِه ونفاستِه، وطلبَهُ لذاتِه ولَذاذتِه، وتعشُّقَه لعَيْنِه ومزيّتِه، وكانَ مُؤْنِسَهُ في الوحشَةِ، وثانيه عندَ الوَحْدةِ، يتكثّرُ به لدى القِلّةِ، ويعتزُّ بهِ في حالِ الذِلّةِ. ولن يُعطيكَ بعضَهُ حتى تُعطِيَهُ جملتَك، ولا يُصحِبُ إليكَ حتى تُلقيَ نفسكَ عليه، وربّما كان مع ذلك عزيزاً عليك مرامُه، بعيداً من يَدِكَ منالُه. ألا تراهُ لمّا دخلَ فيه مَنْ ليسَ هو منه، واقتنعَ باسمِه دونَ عَيْنِه وجسمِه، كيفَ ذهبَ بهاؤه، وغاضَ رونقُه، واستحالَتْ نضارتُه، وتعطّلَتْ سُنَنُه وطُمِسَ سَنَنُه، واستُخِفَّ بقدرِهِ واستُهينَ بأمرِه، ونُبِذَتْ رسومُه، وأقْوَتْ رُبوعُه، ونُقِضَتْ شروطُه، واستُحْدِثَتْ فيه البِدَعُ، وظهرتْ فيه الشُنَعُ، كقولِ الأول:
لمّا ادّعى العِلْمَ أقوامٌ سواسيةٌ ... مثل البهائمِ قدْ حُمِّلْنَ أسفارا
غاضَتْ بشاشَتُهُ واغتاضَ حاملُهُ ... وصوِّعَ الروضُ منه واكتسى عارا