لَمْياءُ في شفَتَيْها حوّةٌ لعَسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابِها شنَبُ
وأقول: إنّ الذي أنكرَه نُصَيبٌ في موضِع الإنكار، وهو عيٌ قبيحٌ؛ لأن الكلامَ لم يجرِ على نظمٍ متسِقٍ، ولا وقعَ الى جانبِ الكلمةِ ما يشاكلُها. وأول ما يحتاجُ إليه الشّعرُ أن يُنظَمَ على نسَقٍ وأن يوضَعَ على رسمِ الُشاكلة.
وقيل: إنّ عمّ عُبَيْد الراعي النُمَيْريّ قال للراعي: أيُّنا أشعرُ أنا أم أنتَ؟ فقال الراعي: أنا أشعرُ يا عمُّ منكَ، فغضِبَ وقال: بمَ وكيفَ؟ قال: لأني أقولُ البيتَ وأخاهُ، وأنتَ تقول البيتَ وابنَ أخيه.
وينبغي للشاعرِ أن يتجنّب الألفاظَ التي تَشْتَبهُ على سامعيها وقارئيها ولا ينزِلَ في الخطابِ من عُلوّ الى مهْبِطٍ؛ لأنّ الأجدرَ أن يرتقيَ من انحطاطٍ الى عُلوّ.
فأما الألفاظُ التي تشتبِهُ فمثالُها ما جرى لأرطأةَ بن سُهيّة المُريّ، وكان قد بلغَ مائة وثلاثين سنةً، فدخل على عبد الملك فقال له: ما بقيَ من شِعرِك يا بنَ سُهيّة؟ فقال: واللهِ ما أشربُ ولا أطربُ ولا أغضبُ، ولا يجيءُ الشّعرُ إلا على مثلِ إحدى هذه الخِلال، وإني لأقول:
رأيتُ المرءَ تأكلُهُ الليالي ... كأكْلِ الأرضِ ساقطةَ الحديدِ
وما تَبْغي المنيّةُ حين تأتي ... على نفْسِ ابنِ آدمَ من مَزيدِ
وأعلمُ أنها ستَكُرُّ حتى ... تُوفِّي نَذْرَها بأبي الوليدِ
وكان أرطأةُ يُكنى أبا الوليد، وعبدُ الملكِ يُكنى أبو الوليد، فارتاعَ عبدُ الملك واشتدّ ذلك عليه وتغيّر لونُ وجهِه ظناً بأنه يعْنِيه، فقال له أرطأة: إني لم أعْنِكَ وإنما عَنَيْتُ نفسي، وشهِدَ عندَهُ جماعةٌ أنّ كُنيتَه أبو الوليد فأمسكَ عنه، ولولا ذلك لأوقَعَ به وأهلَكَه.
والروايةُ الصحيحةُ أن عبدَ الملكِ بلغَتْهُ الأبياتُ فأنكرَها وأعظمَه وقال: ما هذا الجِلْفُ وذِكْري، وأمرَ بإحضارِه ليوقِعَ بهِ فشهِدوا عندَهُ بكُنيَتِه وأنه لم يقصِدْهُ بذلك. فلما أُحضِرَ وهو خائفٌ وجِلٌ، آمنَهُ وأطلقَه، فعادَ وجماعةٌ من أعدائه قد أرْجَفوا عليه بالنَّكال والوَبالِ فأنشأ قائلاً:
إذا ما طَلعْنا من ثَنيّةِ لَفْلَفٍ ... فبَشِّرْ رِجالاً يكرهونَ إيابي
وخبّرْهُمُ أنّي رجِعْتُ بغبْطَةٍ ... أحدِّدُ أظفاري وأصرفُ نابي
وأنّي ابنُ حرْبٍ لا تزالُ تهِرُّني ... كِلابُ عدوٍ أو تهِرُّ كِلابي
وقريٌ من هذه الحكاية ما حدّث به المصوِّر العَنزيّ وكان راويةَ العربِ قال: دخلتُ على زيادٍ فقال: أنشِدْنا، فقلت: من شِعْرِ مَنْ؟ قال: من شعرِ الأعشى، قال: فأُرْتِجَ عليّ ولم يحضرْني إلاّ قولُه:
رحَلَتْ سُميّةُ غُدْوَةً أجْمالَها ... غَضْبى عليكَ فما تقولُ بَدا لَها
فقطّبَ زيادٌ وغضبَ وعرَفْتُ ما وقعتُ فيه فخرجتُ منهزِماً. فلمّا أجاز الناسَ لم أسْتَجرِ أن أرجِعَ إليه، لأنّ أمّ زيادٍ كان اسمُها سُميّة.
ودخل ذو الرّمّة على عبد الملك فقال له: أنشدني أجودَ شِعرِكَ فأنشدَه:
ما بالُ عينِكَ منها الماءُ ينسكِبُ ... كأنهُ من كُلَى مَفْريّةٍ سَرِبُ
وكانت عيْنا عبد الملك تسيلان ماءً، قال: فغضِبَ عليه وأمرَ به، فأُخْرِجَ مهاناً وقد عرَفَ موضعَ خطئه. فلمّا كان من الغد دخل في زُمرةِ الناس وأنشد:
ما بالُ عينيَ منها الماءُ ينسكبُ
حتى أتى على آخرِها فأجازَهُ ومن الاتفاق العجيبِ أنّ عبدَ الملك كان قد أعطى عمروَ بن سعيد الأشْدَق أمانَهُ وخدَعُه وكاذَبَه حتى حصلَ وقتلَه. واتّفقَ أنّ إبراهيمَ بن مُتمِّم بن نُوَيْرة وفدَ على بني عمرو بنِ سعيدٍ الأشدَق فقالوا لعبدِ الملك: ما رأيْنا بدويّاً يشبهُ إبراهيمَ بنَ متمِّم عقْلاً وفضْلاً، فقال عبدُ الملك: أدخِلوه، فلمّا دخل عليه رأى منه ما رآه القوم، فقال له: أنشِدْنا بعضَ مراثي أبيك متمم في عمّك مالكٍ فأنشدَه:
نِعْمَ الفوارسُ يومَ نُشْبَةَ غادَروا ... تحتَ التُرابِ قتيلكَ ابنَ الأزْوَرِ
فلمّا انتهى الى قولِه:
أدَعَوْتَهُ باللهِ ثمّ قتَلْتَهُ ... لوْ هو دعاكَ بمثلِها لم يغْدِرِ