فظنّ عبدُ الملك أنّ بني عمرو بن سعيدٍ قد وضعوهُ على ذلك، فغضِبَ حتى انتفخَ سَحْرُهُ غيْظاً، ونظرَ الى بنيهِ مقطِّباً فعرفوا ما عنده، فأقسموا له بالطلاقِ وأكّدوا الأيْمانَ وأنذروا الحجّ وحرّموا الأموالَ والعبيدَ والإماءَ إنْ كانوا علِموا بقولِه، أو اطّلعوا عليه، أو شاوروه فيه، أو جرى منهم في هذا قولٌ أو فِعْل، فأمسكَ مُعْرِضاً وأخرجَ ابنَ متمِّم خائباً. فلما انصرفوا جمعوا له من بينهم شيئاً وردّوه الى بلادِه خوْفاً على نفسِه من عبدِ الملك.
فيجبُ على الشاعر التحرّز في مثل هذه الشُبَهِ والإعراضُ عنها.
ومن الألفاظِ التي بدّلها قارئُوها ما حدّثني به والدي رحمَهُ الله تعالى قال: مدحَ حيدرُ بنُ محمدِ بن عُبَيدِ اللهِ العلَويّ الحُسَيْنيّ يوسفَ بنَ أيوبٍ بقصيدة، فأخذَها بعضُ أعدائِه وهي بخطِّه، ومن جُملتِها: فلا يَغْرُر الباغي أناتُك. وكشَطَ نُقطَتَيْ التاء كشْطاً خفِياً لا يكادُ يظهرُ ولا يُدرَك، ونقَطَ التاء نقْطَ الباء، وأضاف الى نُقطةِ النون أخرى فصارتِ الكلمةُ أتابكَ، وأتى بالقصيدةِ الى عزّ الدين مسعودٍ أتابك، وقال له: هذا حيدَرٌ ولدُ وزيركَ قد مدحَ عدوَّكُم وقد هجاك وسمّاك باغياً. فلما رأى ذلك لم يشُكَّ فيه ولا أمكنَ أن يُزيلَهُ من قلبِه مُعتذِرٌ، وأُخِذَ حيْدَرٌ وأودِعَ السجنَ، فما زال محبوساً حتى أشرف على التلفِ. هذا بتصحيفِ كلِمة واحدة فمِن مثلِ هذا ينبغي التحفّظ.
وأما النّزولُ في الخطاب من مرتَبةٍ شريفةٍ الى منزلةٍ سخيفةٍ، فكقول أبي الطّيّب:
ترَعْرَعَ المَلِكُ الأستاذُ مُكْتَهِلاً ... قبْلَ اكتهالِ، أديباً قبلَ تأديبِ
لم يَحْسُنْ في حُكم صناعةِ الشعر أنْ يخاطبَهُ بالأستاذِ بعدَ المَلِكِ فإنّ ذلك نقصٌ في الأدب، وقُبحٌ في المعرفة. ألا ترى أن الكلمةَ الدنيّة لا يليقُ أن تقترنَ بكلمةٍ شريفةٍ، وكذاك الكلمةُ الشريفةُ لا يليقُ أن يُذْكَرَ معها إلا ما هو من قبيلِها، وغير ذلك يقدحُ في الصناعةِ عندَ أهلِ المعرفةِ.
قد عرّفْتُك أنّ اللفظةَ الواحدةَ تُفْسِدُ البيتَ جميعَهُ، ألا ترى قولَ أبي الطيّب أيضاً:
ولا فضْلَ فيها للشجاعةِ والنّدى ... وصبْرِ الفَتى لولا لِقاءُ شَعوبِ
لفظةُ الندى أفْسَدَتِ المعنى؛ لأنّ مقْصدَهُ أن يقول: إنّ الدنيا لا فضلَ فيها للشجاعةِ والصبر لولا الموتُ، لأنّ الشُجاع إذا علمَ أنه مخلّدٌ لا ينالُه تلَفٌ ولا إذا ألْقى نفسَهُ في المهالِكِ يمَسُّه ضررٌ، لم يكنْ لشجاعتِه فضلٌ، وإنّما الفضلُ له في الشجاعةِ والصبر مع علمِه أنّ ذلك يؤدي الى تلَفِ النفس، وفقْدِ نعيمِ الدُنيا. وأما النّدى فمخالِفٌ لذلك، لأنّ الإنسانَ إذا علمَ أنّهُ يموتُ هان عليه بذلُ مالِه. ألا ترى المرءَ إذا عوتِبَ على الإسرافِ في البَذْلِ كيفَ يتعتذرُ ويقول: إنّما أبذُلُ ما لا أبْقى له، ولا أنا على ثِقةٍ من التمتّعِ به، كقول الأول:
أبْذُلُ ما لسْتُ بباقٍ لهُ ... ولا بهِ أسطيعُ نيْلَ البَقا
وقول الآخر:
نفسي التي تملِكُ الأشياءَ ذاهِبةٌ ... فلَسْتُ آسى على شيءٍ إذا ذهَبا
فقد بانَ لك أن لفظةَ الندى أفسدتِ المعنى.
وقريبٌ من هذا المعنى أنّ الشاعرَ يصفُ نفسَه بما يرفعُها ثم يُعْقبُ ذلك بقولٍ يحُطُّ منها ويَضَعُها، وهو عيبٌ يُسقِطُ فضيلةَ الشاعرِ ويوهنُ تقدُّمَه. ولهذا قدحَ العلماءُ في امرئ القيس وعابوهُ ولامُوهُ في كتبهم وعاتبوه حيث يقول:
فلوْ أنّ ما أسْعَى لأدْنى معيشةٍ ... كفاني ولم أطلُبْ، قليلٌ من المالِ
ولكنّما أسعى لمَجْدٍ مؤَثَّلٍ ... وقد يُدرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أمْثالي
فهذا شعرُ ملكٍ يفتخرُ بملكِه ويصفُ ما يحاولُ من بَهيّ عِزِّه مع جلالةِ شأنِهِ وعظيمِ خطَرهِ، فكيفَ حسُنَ بهِ أن ينزلَ عن هذا المركب الجليلِ الى محَلٍّ مُستَرذلٍ، ويرتديَ برداءٍ مُبتذَلٍ فيقول:
لنا غنَمٌ نُسَوِّقُها غِزارٌ ... كأنّ قُرونَ جِلَّتِها عِصيُّ
فتَمْلأُ بيتَنا أقِطاً وسَمْناً ... وحسبُك من غِنىً شِبَعٌ ورِيُّ
هذا شِعْرُ أعرابي مُتلفِّعٍ بكسائه لا تتجاوزُ هِمتُه، ما حوَتْهُ خيمتُهُ.