تعالَ إليهِ تلْقَ من نورِ وجهِه ... ضِياءً ومن كفّيْهِ بحْراً من النّدى
لمّا قابلَ الظّلَم في البيت الأول بالضياءِ في البيت الثاني كان مُصيباً مُجيداً، ووجبَ عليه أن يقابلَ الخوفَ من بغْي العِدى بالانتصارِ عليهم والإذالةِ لهمُ، فتركَ ذلك وفسّرهُ بغير اقرّرَهُ فقال: ومن كفّيْهِ بحْراً من النّدى. وكان ينبغي أن يكون ذلك في جوابِ الشكوى من الفقر. ولو قال: ومن كفَّيْهِ نَصراً مؤيَّداً أو ما يقاربُ هذا، كان مُصيباً، فاعْرِفْهُ وقِسْهُ.
وينبغي للشاعر أن يتجنّب تكلُّفَ القوافي واستِدعاءَها مع إبائِها وامتناعِها، فإنه يشغَلُ معنى البيت بقافيةٍ قد أتى بها متكلَّفةً صعبةً، فهو عيبٌ قد نصّ العلماءُ عليه؛ ألا ترى الى قول أبي تمام:
كالظّبْيَةِ الأدماءِ صافَتْ فارْتَعَتْ ... زَهْرَ العَرارِ الغضِّ والجَثْجاثا
فبنى البيتَ جميعَه لطلب هذه القافيةِ، وشغلَ المعنى بها، وليس في وصف الظبيةِ بأنّها ترعى الجثجاثَ زيادةُ حُسْنٍ على رعْيِها القَيْصومَ والشيحَ.
وتبع أبو الطيّب أبا تمّام في ذلك فقال:
جَلَلاً كما بي فلْيَكُ التّبريحُ ... أغِذاءُ ذا الرَّشأ الأغنِّ الشّيحُ
هذا بيْتٌ فيه عدةُ عُيوب: منها حذْفُ النونِ في فليَكُن وقد تقدّم ذكرُه، ومنها حذفُ النون مع الإدغام، ومنه عباعُدُ ما بين الجملة الصّدريّة منه والجُملة العجُزيّة حتى لا مُلاءَمَةَ بينهما؛ لأنه بدأ بذكرِ تباريحِهِ وأشجانِهِ، ثم تركَ ذلك وعدلَ الى السؤالِ عن غذاءِ الرشأ، وما تقدّمَ من شكوى تباريحه لا يليقُ بالسؤالِ عن غذاءِ الرشأ. ولو قال إنّ الذي أشكوهُ من التباريحِ في حُبِّ رشأٍ ليسَ من مراعيهِ الشيحُ لجازَ، ولكنهُ كما تَرى. وبعدُ فليتَ شعري! هل هذا الرشأُ الأغنُّ الذي أرادَ في النيّةِ أنه يُشبِهُ حَبيبَهُ إذا ارتَعى القَيْصومَ والبريرَ والكَباثَ وغيرَ ذلك من مراعي الظِّباءِ، يزولُ عنه الشبهُ لحبيبهِ لاختلافِ مراعيهِ التي يغتذى بها؟ فإنْ كان الأمرُ كذلك فحُسْنُه وشَبَهُهُ في الشيحِ لا غير، ولولا تكلّف القافيةِ لما دعتْهُ الضرورةُ الى تعسُّفٍ أفسدَ المعنى به. وقد استَوْفَيْنا في الرسالة العلوية أقسامَ ما في هذا البيت. وقال عبدُ اللهِ العبْليُّ:
ووقاكَ الحُتوفَ من وارِثٍ وا ... لٍ وأبقاكَ صالِحاً ربُّ هُودِ
لولا القافيةُ لأمكنَ أن يقول: ربُّ نوحٍ أو ربُّ لوطٍ، إذْ ليس النِّسبةُ الى الله تعالى بأنّه ربُّ هودٍ بأجودَ من النسبةِ إليه تعالى أنه ربُّ إبراهيم وإسماعيل. ولكنّ القافيةَ الى ذلك ساقَتْهُ، ومن غُصَصِ الاضطرارِ سقَتْهُ.
وقد يجيءُ من القوافي ما يكون رُقَى العقاربِ أحلى منه. فمن ذلك قولُ أحمدَ بنِ جَحدرٍ الخُراساني:
وما شَبْرَقَتْ من تَنوفيّةٍ ... بها منْ وحَى الجِنِّ زِيزَيْزَمُ
وقال محمد التَيْميّ:
أخطأْتَ وجه الحَقِّ في التّطَخْطُخِ ... لَتَمْطَخَنّ برشاءٍ مِمْطَخِ
وقال ابن مناذر:
ومن عاداكَ لاقى المَرْمَريسا
وقال أبو تمّام:
ورَمَوْهُ بالصّيْلَمِ الخَنْفَقيقُ
لو أن الخَنفَقيقَ في بحرٍ لكدّرتْهُ.
وقد يجيء من القوافي ما يقعُ موقِعاً لو اجتهدَ الشاعرُ أن يسدّ غيرُه مسدَّهُ لأعْياهُ ذلك وعنّاهُ، وتعذّرَ عليه نقضُ ما أسّسَهُ فيه وبناه. وعلى مثلِه يجبُ أن ينَقِّبَ الشاعر. فمن ذلك قولُ عُروَةَ بنِ أُذينَةَ اللّيْثيّ:
منَعَتْ تحيّتَها فقلتُ لصاحبي ... ما كان أكثرَها لنا وأقلَّها
فدَنا وقال: لعلّها معْذورةٌ ... في بعضِ ما منَعَتْ فقلتُ: لعلّها
فقولُه في القافية لعلها لا يقعُ موقِعَه شيءٌ مثلُها. وقال أبو نواس:
أنتَ تبقَى والفناءُ لَنا ... فإذا أفْنَيْتَنا فكُنِ
قولُه فكُنِ لا يقعُ في حرفِ النونِ قافيةٌ موقعها.
وقالت عُليّةُ ابنةُ المهديّ:
ومُغتربٍ بالمَرْجِ يبكي بشَجْوِه ... وقد بان عنهُ المُسعِدونَ على الحُبِّ
إذا ما أتاهُ الرّكبُ من نحو أرضِه ... تنسّمَ يسْتَشْفي برائحةِ القُرْبِ