كان للركبِ من هذا المكان موضِعٌ حسَنٌ ولكنها رأتْ القُربَ أحقَّ به؛ لأن الركبَ لولا القربُ لم يُسْتَشْفَ برائحتِه، فإذا أمكنَ استعمالُ الأصلِ لم يبْقَ للفرعِ النائبِ عنهُ موضعٌ وإن سدّ مسدّاً حسَناً. وقال ابن المعتزّ يصفُ اليَمام:
حتى عرَفْنَ البُرْجَ بالآياتِ ... يلوحُ للناظرِ من هَيْهاتِ
هيهات في هذا الموضع قافيةٌ لا يقَعُ غيرُها موقعَها فهي عاليةٌ على مَنْ رامَها، غاليةٌ على اسْتامَها. ولابنِ المعتزّ في وصفِ فرسيْنِ تباريا في السرعةِ يقول:
وكمْ قد غدَوْتُ على سابِحٍ ... جَوادِ المِحَثّةِ وثّابها
تُباريهِ جرْداءُ خيْفانَةٌ ... إذا كادَ يسبِقُ كِدْنا بِها
وقال المعتمدُ محمد بن عبّاد المغربي وكتبَ بها الى أبيه:
مولايَ أشكو إليكَ داءً ... أصبحَ قلبي به قريحا
سُخْطُكَ قد زادَني سَقاماً ... فابْعَثْ إليّ الرِّضا مَسيحا
فقولُه مسيحاً من القوافي التي لا يسدّ غيرُها مَسدُّها. ومن ذلك قولُ مهيار:
وقالوا: يكونُ البيْنُ والمرءُ رابطٌ ... حشاهُ بفضْلِ الحزمِ؟ قلتُ: يكونُ
وقال الصَّنَوْبَري:
وافَتْ منيّتهُ الستينَ وا أسَفا ... إذ لمْ يكنْ عُمْرُهُ سِتينَ سِتينا
وقال آخر:
عهْدي بظلِّكَ والشّبابُ نزيلُه ... أيّامَ ربعكَ للحسانِ عُكاظُ
القافيةُ ظائيةٌ لا يسدُّ موضعَها غيرُ عكاظ، وهو اسمُ سوقٍ للعرب بناحيةِ مكةَ كانوا يجتمعون بها كلّ سنة. وأمثالُ ذلك في الشعرِ القديمِ والحديثِ كثير.
وينبغي للشاعرِ ألا يخالفَ الشعراءَ المتقدمينَ في عوائدهم إذا شبّهوا، ومقاصِدِهم إذا أيْقَظوا ونبّهوا، فإنّ ذلك ممّا يُعابُ به، ويُعدُّ من ذنوبِه. ألا ترى العلماء كيفَ عابوا على المرّارِ قوله:
وخالٍ على خدَّيْكَ يبدو كأنّهُ ... سَنا البَدرِ في دعْجاءَ بادٍ دُجونُها
والمعلومُ أنّ الخالَ أسودُ، والخدَّ أبيضُ، فعكسَ المرّارُ وجعل الخالَ كسَنا البدرِ نوراً، والخدَّ كالليلِ سواداً، وهذا غير ما جرَتْ به عادةُ الشُعراء في وصفِ الخال. والمعروفُ كقوْلِ العباسِ بن الأحنف:
يُقطِّعُ قلبي حُسْنُ خالٍ بخَدِّها ... إذا سفَرَتْ عنه تنغّمَ بالسِّحر
لَخالٌ بذاكَ الخدِّ أحسنُ منظراً ... من النُّكتةِ السوداءِ في وضَحِ البدر
وكقولِ عبدِ الملك الحارثي في وصفِه:
كأنّ نُقطَةٌ بمِسْكٍ ... لائحةٌ في بياضِ عاجِ
وكقول الصّنوبريّ:
والخالُ في الخَدّ إذ أُشَبِّهُهُ ... زهْرةُ مِسْكٍ على ثَإى تِبْرِ
وكقول الآخر:
كأنّهُ من سبَجٍ فاحِمٍ ... مركَّبٍ في لُؤلؤ رطْبِ
ومثْلُ هذا المعنى في الشِّعرِ كثير. ولما أتى المرّارُ بما خرَقَ فيه الإجماع وخالفَ العَيانَ والسَّماع، عدّه أهلُ الأدب عيباً عليه وخطأ منه.
وممّنْ خالَفَ عوائدَ الشُعراء في مقاصدِهم الحكَمُ الخُضْري بقوله:
كانت بنو غالبٍ لأمّتِها ... كالغيْثِ في كل ساعةٍ يكِفُ
وليس المعهودُ من الغيْثِ أن يكفَ في كلّ ساعةٍ، ولا وصَفَ الشعراءُ الغيثَ بالوكْف في كلّ ساعة ولا كلّ شهرٍ، وإنّما شبّهوا الممدوحَ بالغَيْث لعمومِ إفْضالِه، وأنّه لا يشُحُّ بنوالِه، كما يعُمّ الغيثُ بتهطالِه، ولا ينْحَلُّ بريِّقِ سَلْسالِه. ومعانيهم في هذا كثيرة.
وممّنْ خالفَ عوائدَ الشعراء في تشبيهاتِهم أحمدُ بن أبي فنَنٍ حيث يقول:
لا تَميلنّ فإنّي ... خائفٌ أن يتقصَّفْ
وإنّما يُشَبّهُ المحبوبُ بالقضيبِ اللّدْنِ والخُوطِ الرّطْبِ، ولا يوصَفُ بأنّه يتقصّف. وابنُ أبي فنَن تبعَ في قولهِ قيْسَ بنَ الخَطيم. وقد سبَقَ القول أن الشاعرَ ينبغي أن يقتدي بمن أحسَنَ من الشُعراء وأجاد، لا بمَنْ أساءَ وخالف القانونَ المُعتادَ. قال ابنُ الخطيم:
كأنّها عودُ بانةٍ قَصِفُ
وقال ابنُ الرومي في ذمِّ ابن أبي فنَن على قولِه يتقصّف:
أيها القائلُ إنّي ... خائفٌ أن يتقَصّفْ
ليسَ هذا الوصفُ إلاّ ... وصْفَ مصْلوبٍ مُجَفَّفْ
وقال أبو نُواس في مثل قوله: