وهذا هو ما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإنه يرى أن لا عذر لأحد بالجهل بوجود الرب الخالق؛ وذلك لما جبلت عليه فطرته من وجوده تعالى، ويساعد تلك الفطرة العقل والتفكير فيما خلق الله تعالى من مخلوقات عظيمة مبثوثة في الكون، كلها تدل على وجود الرب الخالق، فقد قيل عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: "لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه" [1].
فالظاهر من كلام الإمام أبي حنيفة أنه قد اشتمل على الآتي:
"أ" أن معرفة الله فطرية، وأن وحدانية الله وربوبيته تدركان بالعقل فهذا حق لا شك فيه.
"ب" أن العقل موجب لمعرفة الله سبحانه وتعالى، وأن العبد مكلف بمجرد عقله بمعرفة الله سبحانه وتعالى ولو لم تبلغه الدعوة، وأن العبد إذا لم يوحد الله سبحانه وتعالى فهو غير معذور.
فهذا الأمر على خلاف مذهب جمهور أهل السنة والجماعة من السلف الصالح. فالمتقرر من مذهبهم أن العقل وإن كان مدركا لمعرفة الله، ولكنه غير موجب، فلا تتم الحجة على العبد بمجرد عقله ما لم تبلغه دعوة الرسل. دل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} "سورة الاسراء: الآية15".
فهذه الآية صريحة في عدم تعذيب من لم تبلغه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وهذه هي عقيدة السلف فقد بوَّّب الإمام [1] درء تعارض العقل والنقل 9/62؛ والمسامرة مع شرحه المسايرة ص18/2؛ تحقيق محمد محيي الدين.