أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده، فالمعرفة بالله فحسب شرط العقد، والعلم والمعرفة لا تزول بنطق اللسان. كما أن الإيمان لا يتبعض إلى قول، وعقد وعمل، والناس فيه سواء، لأن المعرفة شيئ واحد لا تفاضل فيه.
ولا شك أن مذهب جهم هذا من أقبح المذاهب في مجال الإيمان وأكثرها تطرّفاً وشذوذاً. وقد وقفت منه جميع الطوائف الإسلامية موقف الرفض والإنكار، لأنه يُدخل في الإيمان ما عُلِم ضرورة وبداهة خروجه منه، ومع هذا فقد حاول تاج الدين السبكي أن يجد مخرجاً للجهم حيث قال: وأما جهم فنحن على قطع بأنه رجل مبتدع ومع ذلك لا أعتقد أنه ينتهي إلى القول بأن من عاند الله وأنبياءه ورسله، وأظهر الكفر وتعبد به يكون مؤمناً، لكونه عرف بقلبه، فلعل الناقل عنه حمل اللفظ ما لا يطيقه، أو جازف كما جازف في النقل عن غيره[1]. وقد أشار بذلك إلى ابن حزم الذي أشرك الأشعري مع الجهم في هذا المذهب [2]. أما هذا المذهب فلم يختص ابن حزم بذكره عن الجهم، بل اشتهر بين جميع محرري المذاهب، لذلك من الخطأ أن نصفه بالمجازفة في النقل. وأما إشراك الأشعري معه فيه فهذا ما لا نوافق عليه، لأنه حين قال أولاً إن الإيمان هو التصديق لم يقصد مجرد العلم ـ بل قصد بذلك علم القلب وعمله ـ بأن يعلم ثم يتبع ذلك بالانقياد القلبي، الذي هو عمل القلب. مع أن الأشعري رجع أخيراً إلى القول بقول السلف وأنه قول وعمل يزيد وينقص كما هو موجود في الإبانة، … والمقالات[3].
ولا شك أن جهماً قال قولاً شر من قول المرجئة، وأشد خطراً منه، [1] السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، طبقات الشافعية، ج1 ص91، تحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، ط1 مطبعة عيسى الحلبي، سنة 1383هـ. [2] ابن حزم، الفصل في الملل والنحل، ج3 ص188. [3] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري،ج1 ص347.